ظل زعيم ليبيا الراحل معمر القذافي 42 عاما يحارب طواحين الهواء مثل دون كيشوت. إلا أنه تميز عن الإسباني في أنه خاض مغامراته بعد أن وضع يده على السلطة وجعل شعبا بأكمله يسير في ركابه.
عمل القذافي بدأب لتغيير كل شيء في ليبيا وفي العالم بحسب مزاجه الخاص. وكان مؤمنا أنه منذور لرسالة كبرى لا تقتصر على رقعة ضيقة من الأرض. وهو لم يأل جهدا في تنفيذ مشروعه الطموح الذي كلّف نفسه به.
لم ينقص القذافي، بشخصيته المركبة وعنفوانه البدوي وذكائه ومزاجه الحادين، أي شيء ليفعل ما يحلو له وبالطريقة التي يراها مناسبة بعد أن أحكم قبضته على السلطة التي وصل إليها وهو في السابعة والعشرين من عمره في، بلد غني ومترامي الأطراف وقليل السكان وبموقع استراتيجي.
قال القذافي وفعل كل ما يحلو له من دون حسيب أو رقيب. وتفنن في تخريج الكلمات وفي نسج الشعارات البراقة والأفكار الغريبة. كان مفوها. وكان يقول ما لا يخطر على بال نظرائه في المنطقة والعالم، ولذلك أحبه الكثيرون وكرهه الكثيرون. لكنه في كل الأحوال تحول إلى نجم حقيقي، ومصدر للمفاجآت والمواقف الطريفة والصادمة أحيانا في المحافل العربية والدولية.
قلب دون "كيشوت ليبيا" بلاده رأسا على عقب، وأعاد تشكيلها من جديد كما لو أنها لم تولد إلا معه. بنى وهدم. أفرح البعض وأبكى البعض الآخر. ولم يهدأ حتى آخر يوم في حياته.
بدأ القذافي مشواره للتغيير في ليبيا بالتركيز على أن النفط، ثروة زائلة، والزراعة دائمة، فأقام المشاريع الزراعية الضخمة، وحاول تعمير الصحراء بمداخيل النفط الهائلة، وحين يئس أسدل الستارة عليها وطواها كما لو أنها لم تكن.
بعد فترة، خرج على مواطنيه بفكرة جديدة تقول إن إمكانيات ليبيا الاقتصادية كافية لإعالة 25 مليون نسمة. وأشار إلى ضرورة توطين 4 ملايين من المزارعين المصريين في ليبيا لتعمير صحاريها. المشروع دخل حيز التنفيذ فعلا إلا أنه أُغلق في مراحله الأولى، ولم يعد يتحدث عنه أحد.
تفتق ذهنه في ما بعد عن فكرة غاية في الغرابة والطرافة، فخرج على شعبه ليعلن أن ليبيا "سبخة" مالحة لا تصلح للحياة، وأن على الليبيين أن يهاجروا كما فعلوا في القرون السابقة نحو وسط إفريقيا وفي اتجاه نهر النيل قبل فوات الأوان. وأعد لذلك برنامجا يتحصل بمقتضاه من يرغب في الهجرة على قرض لإقامة مشروع زراعي في مصر أو في القارة السمراء. الفكرة استفاد منها بعض الحذاق والمغامرين ومرت هي الأخرى كسحابة صيف.
وبين هذا وذاك، منع الزعيم الليبي الراحل استيراد الشكولاتة بحجة أن من لديهم رطب التمر لا يحتاجونها، فتعلمت بعض الأسر صناعتها منزليا. منع استيراد الملابس الداخلية فترة من الوقت فسافر الليبيون لسد حاجتهم من الدول المجاورة وخاصة مالطا. منع استيراد السيارات الجديدة، فجلب مواطنوه خردة أوروبا. منع استيراد إطارات السيارات، فازدهرت تجارة الإطارات المستعملة، بل ولجأ البعض إلى خياط التالف منها!
حظر على الليبيين مزاولة مهنة الحلاقة، بحجة أنها غير منتجة، فصار الليبيون يتبادلون تحليق رؤوس بعضهم البعض، بعد أن كانت هذه المهمة "محتكرة" من قبل حلاقين من الدول المجاورة.
وبعد أن خفتت معاركه مع "الإمبريالية الأمريكية والغرب الاستعماري"، التفت القذافي إلى البيبسي كولا وأشهر الحرب عليها. خرج على مواطنيه ذات يوم، وأسر إليهم بأن البيسبي كولا وأخواتها من المشروبات الغازية تُصنع باستخدام كبد الخنزير، فاختفت هذه السلعة من أسواق ليبيا في اليوم التالي، ولم تعد تباع لفترة قصيرة من الزمن.
ويقال إن شركة بيبسي أرسلت وفدا إلى طرابلس قابل القذافي، وساق له الحجج والبراهين التي نجحت في تسوية "سوء التفاهم" بين "الأخ القائد" وهذا المشروب الغازي المنعش والضار بالصحة.
أخذت "بيسبي كولا" وأخواتها راحتها كاملة في ليبيا بعد ذلك، ولم يعد يعكر صفوها أي شيء بعد أن تصالحت مع القذافي وأعادت الاعتبار إلى سمعتها التي كادت أن تتلطخ بكبد الخنازير.
لكن القذافي تذكر غريمته بعد سنوات ونقض الصلح معها. واختار القارة الإفريقية هذه المرة ميدانا للمبارزة. ذهب إلى غينيا كوناكيري، وأمام حشود غفيرة من الأفارقة، كشف أن "بيبسي كولا" و"كوكا كولا" اختراع غربي سرقت مادته الأولية من إفريقيا.
قال لهم القذافي: "هل تعرفون بيبسي كولا؟ هل تعرفون كوكا كولا؟ يقولون هذا مشروب أمريكي وأوروبي. وهذا غير صحيح. الكولا إفريقية. أخذت منا مادة خام رخيصة، وبيعت لنا بثمن غال. يجب أن نصنعها نحن ونبيعها لهم!"
وضجت حشود الأفارقة صارخة هاتفة ما عن لها، مزهوة بهذا النبأ السار. وعاد القذافي الذي كان نصب نفسه "ملكا لملوك إفريقيا التقليديين" إلى بلاده، ولم تصب بيبسي كولا بلعنته هذه المرة أيضا ولم تفلس ولم تنخفض مبيعاتها.
فيما مضى، لاحقت لعنة القذافي خصومه، فاغتيل الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، وخُلع الرئيس السوداني الأسبق جعفر النميري، ومات في المنفى، وخُلع الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة أيضا، وخلع الرئيس التشادي حسين حبري، وهو الآن يواجه محاكمة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
تمكنت لعنة القذافي من ملاحقة معظم خصومه اللدودين، لكنها تركت "بيبسي كولا" وشأنها ولم تمسسها بضرر، بل ارتدت هذه اللعنة على القذافي نفسه وتسببت في مقتله والتنكيل به.
مع كل ذلك لم تتوقف لعنة القذافي عن العمل، فها هي قد أصابت جميع الليبيين خصوما وأنصارا. بددت ثرواتهم وشتت شملهم، وأوصلتهم إلى وضع كارثي لا يحسدون عليه. هذا ما يظنه البعض.
روسيا اليوم