دلالات كثيرة ومعبّرة أبرزتها التسوية المفاجئة التي هبطت على مشهد سياسي محتدم، كان ينذر بمواجهة يصعب التكهن بتداعياتها الخارجية والداخلية، فاذا بالعدّ العكسي للمواجهة ينقلب رأساً على عقب الى تبادل الانخاب بالافراج الموعود عن جلسة مكتملة النصاب الميثاقي اليوم.
وأهم دلالات هذا التطور وانعكاساته المرتقبة من خلال انعقاد الجلسة التشريعية لمجلس النواب واقرار جدول أعمالها، يتمثل في تثبيت معادلة منع لبنان من بلوغ الانهيار الذي كان خطره محدقاً به بقوة، وهذه المرة ليس من البوابة الامنية او السياسية فحسب وانما من البوابة الاخطر التي تمس باستقراره المالي والاقتصادي. ذلك ان الجلسة التشريعية اليوم وغداً (ما لم يكف يوم واحد لاقرار جدول الاعمال) سترسل اشارة ايجابية الى المجتمع الدولي عن التزام لبنان ضمن الفرصة المحدودة المتبقية أمامه التشريعات الدولية المتصلة بمكافحة الارهاب وتبييض الاموال والتهريب الضريبي، كما سترسل اشارة ايجابية اخرى الى الرأي العام الداخلي عن مسائل اقتصادية ومالية مهمة من أبرزها القروض والهبات الملحة المتصلة بمشاريع انمائية حيوية وتوفير التشريعات الضرورية للانفاق العام.
أما من الناحية السياسية، فان التسوية التي وزعت "أنصاب" مكاسبها على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، بل عبر خروج "الجميع رابحين" كما يحلو للبعض ان يصورها، أظهرت واقعياً دوراً محورياً أساسياً انتزعه الرئيس سعد الحريري في المقام الاول باعتراف مباشر وعلني من البعض وضمني من البعض الآخر. إذ ان الحريري مدَّ حبال النجاة للمتورطين في مأزق كانوا اصبحوا جميعاً أسرى مواقفهم المتشددة منه، كما أنقذ الجلسة التشريعية من تبعة الطعن في ميثاقيتها لو مضت الامور على عواهنها وسط استعدادات الثنائي العوني – القواتي لأكبر عراضة رفض مسيحية من جهة وعدم تراجع رئيس مجلس النواب نبيه بري عن موعد الجلسة وجدول أعمالها من دون تسوية لقانون الانتخاب من جهة مقابلة.
التسوية والردود
واتخذ الموقف الذي أعلنه الحريري عقب نشوء "غرفة عمليات" طارئة في الرياض منذ ليل أول من أمس والى ما بعد ظهر أمس، حيث كان رئيس الوزراء تمّام سلام مع الوزراء المرافقين، بعداً بارزاً لجهة اثبات دوره المحوري في اجتراح التسوية وانقلاب الوضع من ذروة التصعيد الى ذروة التهدئة، في ظل اعلان الحريري العناوين الاربعة لموقف تيار "المستقبل" وهي مشاركته في الجلسة التشريعية اليوم "لاقرار المشاريع المالية التي تتعلق بمصلحة لبنان وعلاقته بالمجتمع الدولي، والتزام التيار عدم حضور أي جلسة تشريعية بعد هذه الجلسة لا تكون مخصصة لمناقشة قانون جديد للانتخابات بهدف التوصل الى صيغة لاقراره، والتصويت لاقرار قانون تحديد شروط استعادة الجنسية، ودعوة الزملاء من الكتل النيابية كافة الى حضور الجلسة اليوم على هذه الاسس تكريساً للشركة والعيش المشترك".
واعتبرت أوساط معنية بالتسوية ان التوازن الذي اعتمد في تثبيت موعد الجلسة بجدول أعمالها المقرر وتعهد عدم المشاركة في أي جلسة أخرى لا تكون مخصصة لمناقشة ملف قانون الانتخاب، أخرج واقعيا كلا من الرئيس بري ورئيس "تكتل التغيير والاصلاح" العماد ميشال عون ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع في مراتب متساوية من المكاسب، علماً ان دوراً ملموساً لعبه وسطاء آخرون بينهم الوزير بطرس حرب والنائبان احمد فتفت وعاطف مجدلاني في مهمة لجنة جوالة لا يمكن انكاره في بلورة التسوية التي ولدت بعد ظهر امس. واذ وصف عون التوصل الى هذه التسوية بأنه "يوم سعيد"، حرص جعجع على التأكيد ان الرئيس الحريري "أنقذ الموقف"، مشددا على ان "الشركة الوطنية فوق كل اعتبار والروح الوطنية انتصرت اليوم".
وعقدت كتلة "المستقبل" النيابية اجتماعا استثنائيا مساء امس في بيت الوسط برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة فور عودته من برلين، وتركز البحث خلال الاجتماع على الجلسة التشريعية التي ستعقد اليوم والموقف منها وسبل التعامل مع المواضيع المطروحة.
كما عقد في بيت الوسط اجتماع لقيادات قوى 14 آذار تركز البحث فيه على موضوع الجلسة التشريعية، وتم التأكيد "ان تحالف قوى 14 آذار هو بمثابة اطار وطني جامع من أجل قيام دولة قادرة تؤمن الحقوق للمواطن الفرد والضمانات للجماعات".
نصرالله: تسوية شاملة
أما الموقف البارز الآخر الذي استوقف المراقبين عقب التوصل الى التسوية، فجاء على لسان الامين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله من خلال دعوته الى تسوية داخلية شاملة. وفي كلمته في "يوم الشهيد" طالب نصرالله القوى السياسية "بالبحث عن تسوية سياسية حقيقية"، داعياً الى الحوار في موضوع الانتخابات الرئاسية ورئيس الوزراء وتركيبة الحكومة وقانون الانتخاب. واعتبر ان "المعالجة الجزئية متعبة جداً وأدعو الى تسوية شاملة على مستوى الوطن".
في الرياض
وكانت الاجتماعات التي عقدت في الرياض، على هامش مشاركة الرئيس سلام والوفد الوزاري المرافق له في قمة الدول العربية ودول اميركا اللاتينية، تواصلت في مقر سلام، ثم في دارة الحريري، مع فتح خطوط التشاور مع بيروت وخصوصا مع الرئيس بري ورئيس "اللقاء الديموقراطي" النائب وليد جنبلاط والعماد عون والدكتور جعجع. ورحب جنبلاط بدوره بالتسوية ووصفها بأنها "أمر ايجابي نتوقف عنده ونعلق عليه آمالا كبيرة لفتح صفحة جديدة بين القوى السياسية لمعالجة كل مشاكلنا من خلال الحوار الجدي والصريح".
وأفاد مندوب "النهار" الذي رافق الوفد الحكومي الى الرياض أحمد عياش ان اليوم اللبناني الطويل في الرياض توج، بعد الاجتماع الذي عقده الرئيسان سلام والحريري والوفد الوزاري في دارة الحريري، بلقاء حاشد في السفارة اللبنانية في العاصمة السعودية حيث القى سلام كلمة لافتة قال فيها إن "الرئيس الحريري يتقدمنا في الوطنية ويحمل ارث الرئيس الشهيد الكبير رفيق الحريري ... وكان لنا مواكبة حثيثة مع مسؤول كبير في لبنان يتحمل أمانة الحفاظ على الوطن دولة الرئيس بري". كما وجه تحية الى "كل قادة القوى السياسية الذين عندما يحزمون أمرهم يحلون المشاكل".
وعلمت "النهار" ان وزير الخارجية جبران باسيل، الذي كان في عداد الوفد الوزاري، كان يزمع مغادرة الرياض صباح امس والعودة الى بيروت بطلب من العماد عون، كما أن الوزير وائل ابو فاعور كان يتأهب للعودة، لكن الاتصالات التي استمرت طوال الليل أدت الى بلورة التسوية. وقال باسيل لـ"النهار" إن "التيار الوطني الحر حقق مرتجاه في ثلاثة أمور هي قانون الجنسية وأموال البلديات وقانون الانتخاب".
كما أن الوزير أبو فاعور أكد ان النائب جنبلاط تعهد ان تكون الاولوية في الجلسة التشريعية المقبلة لقانون الانتخاب، ونقل هذا الالتزام الى الحريري.
وأشاد السفير السعودي في لبنان علي عواض عسيري عبر "النهار" "بما أنجز من تفاهمات لا غنى عنها لمصلحة لبنان".