نعرف عن الكوريين أنهم عملوا في سبعينيات القرن الماضي في مشاريع عملاقة لإنشاء البنية التحتية في المملكة، وأنهم يصدِّرون لبلدنا مختلف أنواع الصناعات من شاحنات وسيارات إلى أصغر وأدق الأجهزة الإلكترونية، مروراً بجميع أشكال الأجهزة المنزلية، وأنهم أيضاً متميزون في لعبة كرة القدم. معرفتنا بكوريا لا تتعدى ذلك، ولا نعرف عنها أنها دولة تعيش تجربة متميزة وفريدة على المستوى العالمي في التحول الديمقراطي، وبناء اقتصاد قوي متعدد المصادر، ولا نعرف أيضاً أن حضور وفاعلية مجتمعها المدني و«مؤسساتها العميقة» مثل: النقابات العمالية، والاتحادات الطلابية، كانا ولايزالان المحرك الرئيسي لضبط التوازن السياسي في المجتمع.
خلال الأيام الماضية احتضنت كوريا المؤتمر الثامن للحركة العالمية للديمقراطية، الذي شارك فيه حوالي 400 ناشط في العمل الديمقراطي من 100 دولة، وألقى في افتتاحه رئيس الوزراء الكوري، سومان لي، كلمة لخَّص فيها التجربة الديمقراطية في كوريا، كما عرض في الاجتماع رئيس البرلمان الكوري، جانج يو هوا، الاستعداد التام للتعاون لدراسة ونقل تجربة كوريا في بناء المؤسسات الديمقراطية والتنمية الاقتصادية للعالم باعتبارها تجربة إنسانية متقدمة.
إن التجربة الكورية تعتبر مثالاً نموذجياً لنهضة اجتماعية واقتصادية وديمقراطية متجددة، فالفرد الكوري جاد ومجتهد وملتزم بشكل عام، ولدى أبناء المجتمع اهتمام واسع بالمشاركة والتفاعل مع قضايا الشأن العام، وحضورهم دائم في مختلف الأمور. نسبة عظمى من الكوريين منشغلون في مختلف الأعمال التطوعية الدينية والاجتماعية بفاعلية عالية، ومن هنا انطلقت جماعات دينية ومدنية تعمل في قضايا السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان، ففي العام الماضي مثلاً نظَّمت جمعية«HWPL» المهتمة بقضايا السلام العالمي، تجمعاً عالمياً، فاق عدد حضوره 120 ألف شخص، واجتمع فيه رجال دين، وشخصيات سياسية، ونشطاء سلام من مختلف أنحاء العالم في دعوة إلى إقرار مواثيق سلام عالمية.
الحرب الكورية بين الشمال والجنوب، التي استمرت ثلاث سنوات، وحصدت أربعة ملايين قتيل، هذا عدا عن المشردين والجرحى، ودمرت البلدين تماماً، وشلَّت التنمية والاقتصاد، حفَّزت الكوريين لتكون منطلقاً للتحول الإيجابي، ودافعاً للنضال من أجل السلام والتنمية، ففي المتحف المخصص لذكرى الحرب، ينتهي الزائر ليرى المجالات والآفاق المتجددة، التي ابتكرها الكوريون كي يعوِّضوا ما فاتهم من أضرار وخسائر.
كوريا، التي عانت من الاستعمار، والحروب، والانقلابات العسكرية المتتالية، استطاع أبناؤها تحويل الانتكاسات إلى انتصار نحو التغيير، وشحذ الهمم والإرادة، وارتقت كوريا الجنوبية خلال عقود قليلة من أدنى سُلَّم الهرم الاقتصادي في العالم إلى دولة صناعية ذات اقتصاد قوي ومتنوع.
وتعمل المؤسسة الكورية للديمقراطية المدعومة من وزارة الداخلية على توثيق كل ما يتعلق بالنضال الديمقراطي في كوريا بكل تفاصيله، ولديها 800 ألف مادة موثقة ومحفوظة بصورة دقيقة للغاية، ومتاحة للباحثين وعموم المهتمين للاطلاع عليها ودراستها.
التعليم في كوريا متقدم جداً، وتعتبر كوريا من أكثر دول العالم في عدد أيام الدراسة، التي تبلغ 296 يوماً في السنة، وكذلك في مدة ساعات الدراسة اليومية، كما أن 30% من الطلبة يدرسون في مدارس أهلية داخلية.
خلال العقود الستة الماضية تمكَّن الكوريون من تحويل أنماط الإنتاج لديهم بصورة مرنة وسريعة من الزراعة التقليدية إلى النسيج، ثم الصناعات الثقيلة، وبناء المشاريع، وأخيراً التحوُّل إلى التكنولوجيا المتقدمة، وقد أدى هذا النمو الاقتصادي المتصاعد إلى بروز طبقة وسطى واسعة، دفعت في ظل انفتاح سياسي إلى تحول ديمقراطي مستقر.
جعفر الشايب