إن قضية إستخدام الدين في السياسة , وإستعماله كمطيّة للوصول إلى السلطة , ليس بالامر الجديد , بل هو أسلوب قديم \جديد , واستعمل كثيرا في التجارب التاريخية البشرية في الحكم , وفي الزمن المعاصر إستعمل ويستعمل كثيرا , ويُستغل الدين شعاراً وأداة في حركة الصراع على السلطة والتسلط , فكثير من الحركات السياسية والاحزاب كانت ترتبط بالدين كحامل أساسي , في حين أن الاهداف الحقيقية كانت سياسية بإمتياز وتصبّ كلها في الصراع على الحكم .
هذا الاستخدام التاريخي والمعاصر للدين في السياسة منشؤه الخلط بين الديني والدنيوي , وعدم الفصل بين الاختصاص القائم على حرية الدين القيميّة والاخلاقية , وبين الحرية السياسية في ساحة العمل وإدارة شؤون الناس السياسية . فليس من وظيفة الدين إدارة الشؤون العامة الخدماتية , بل وظيفته تقييد العمل الخدماتي بمنظومة أخلاقية تمنع السياسي من إستغلال عمله من اجل أهداف سلطوية , من هنا طُرحَت فكرة تديين السياسة وليس العكس أي تسييس الدين .
هذا الاستخدام يوفر على السلطة الكثير من الجدالات والنقاشات , ويعفيها من تأمين البرهان والدليل في عملية إقناع الجمهور , لأن الدين من حيث كونه مقدسا يقبله الناس بدون تردد , ولأن المقدس حاجة ضرورية للإنسان كحاجته للطعام والشراب لا يمكن له أن يرفضه , وحياة الانسان لا تستوي معنويا من دون مقدس , إلا أن الاشكالية الاكثر خطرا على الانسان هي إتساع دائرة المقدس فتبتلع كل ما هو دنيوي , وحينئذٍ يُلبّس لباس الديني لكل ما هو دنيوي .
إن إسترداد إحتكار المعرفة الدينية , وتحريرها من الكهنوت الديني , وإتاحتها للجميع من طلاب ومدرّسين وباحثين ومفكرين ومثقفين , وإعتبار المعرفة الدينية حق للجميع , كونها شأنا عاما يتدخل في المجال الفردي والاجتماعي للبشر , هذا الاسترداد والتحرير بعد كسر الاحتكار , يعطي للدين مكانه الصحيح ويستعيد بذلك دوره الفعّال في رفض إستخدامه في اللاديني .
الدين هو الذي يرسم حدود المقدس والدنيوي , وليس الدنيوي هو الذي يرسم حدود المقدس , فيخلع الاقنعة على مساحة شاسعة مما هو دنيوي ويجعله مقدسا , ولا يترك للعقل والخبرة البشرية مجالا تتجلى فيه إبداعاته في مختلف حقول المعرفة .
نحن اليوم أمام سيناريو جديد من الحروب التي تؤججها المصالح السياسية والاقتصادية بإسم المقدس الديني , ونرى كيف يستعمل الدين في إغواء وتضليل الشعوب , ونرى كيف يُدنّس المقدّس بإسم المقدّس , فاستفحل وساد مفهوم الجهل المقدس الذي تجلّت آثاره في ما نشهده من غسيل الادمغة , عبر الخطابات الدينية الخالية من المعرفة والثقافة , والتي إستغلّت رغبة الانسان في الوصول إلى الحقائق الدينية من دون تعمق وإعمال العقل ,وتجلّى في أشكالٍ مختلفة وتسبب بالعديد من المآسي الانسانية .