مما لا شك فيه أنّ ظاهرة التكفير المعاصرة تمثّل ثقافة سوداوية , وتُنذرُ بمستقبل أكثر سوداوية في العالم الاسلامي , بما تحمله من عداءٍ للإنسانية , وإستهانة بكل مختلف في الرأي الديني , حتى المختلف بالمطلق , ولا ترى ثقافة التكفير حُرمة لنفسٍ أو عرضٍ أو دمٍ أو مالٍ أو فرجٍ أو كرامة , إنها بإختصار ظاهرة تتناقض تماما مع الفطرة الانسانية السليمة . لكن هذه الظاهرة ليست جديدة , بل لها جذورها في تاريخ الفكر الاسلامي ,
فقد ظهرت منذ عهد الخوارج في عصر الخلفاء , وبالتحديد ظهرت وبرزت في معركة صفّين , نتيجة خلافات سياسية , وخلاف في الرأي حول التحكيم , وقد ذكر المؤرخون تفاصيل ذلك( فمن أراد فليراجع )وترك هذا الخلاف آثارا عقائدية وأصولا فكرية وعملية في التراث الاسلامي , تكوّنت بسبب الجدال الفقهي الذي حصل , فكانت تخبو تارة حسب الظروف السياسية , وتظهر تارة أخرى , ولم تختفِ من السياقات الاسلامية والنصوص بل تجذرت وتحوّلت إلى منهج علمي وطريقة في قراءة وفهم النصوص الدينية , وبسبب الجهل بحقيقة الدين , والتعصّب وعدم إحترام الرأي الآخر , خرجوا على الجماعة , وتمسكوا بالمنهج الظاهري في فهم النصوص , فالتبست عليهم المفاهيم الدينية , فأكثروا من الاحكام التكفيرية التي لها طابع الانتقام والتمسك بالرأي , هذا الخلل الفكري وضعف المعرفة أوقعهم في متاهات التمسك بما يسمى المتشابهات من الايات القرآنية مع ترك المحكمات التي تقيّد تلك المتشابهات , فتشكلت عندهم صورة عن نظام الحكم ومتفرعاته من العدل والامامة والتوحيد , مختلفة عن الصورة التي أراد الامام علي عليه السلام تكريسها بين المسلمين , أضاعت العقيدة وشوهتها , فهذا المنهج الظاهري في فهم النص الديني هو الاساس المعتمد في تشكّل الفكر الديني عند الخوارج تاريخيا .
إشتهر الخوارج بشجاعتهم وتمسكهم بآرائهم فكانوا أشدّ الناس في الدفاع عن نظريتهم , حتى الموت في سبيل ما إعتقدوه .مواجهة ظاهرة التكفير في منهج الامام علي (ع) : كان الحوار منهج الامام علي (ع) مع الخوارج , ومن ثم الخطوة التالية التي جاءت بعد أن أظهر الخوارج عنادا , ولم يخضعوا للحق عندما حاورهم ابن عباس ومن ثم عرض عليهم الامام علي (ع) ثلاثة أمور . فقال لهم : " .. ألا أن لكم عندي ثلاث خلال ما كنتم معنا : لن نمنعكم مساجد الله، ولا نمنعكم فيئا ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا ". ولكن الخوارج إصروا على البغي والعدوان , ووضعوا لأنفسهم منهجا عقائديا يبيح لهم إرتكاب الجرائم بحق الناس , فقتلوا الصحابي عبدالله بن خباب وبقروا بطن جاريته بطريقة وحشية , فلما طالبهم الامام (ع) بتسليم القَتَلة رفضوا , وقالوا كلنا قتله , ودماؤكم وأعراضكم مستَحلٌ لنا , مما إضطر الامام علي (ع) لمحاربتهم في معركة النهروان , وقضى على شوكتهم , وأوصى الناس وشيعته بأن لا يقاتلوا الخوارج بعده , معلِلا ذلك بأنه ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه أو أصابه .
ما نجده من تشابهٍ بين آراء وشعارات الخوارج التاريخية , وبين آراء وشعارات بعض الحركات الاسلامية السياسية اليوم , وشكل ونمط الحياة لديهم , لا سيّما طريقة تعاطي الحركات الاسلامية المعاصرة من الشدّة والتكفير ورفض المختلف معهم من المسلمين وغيرالمسلمين , وأهمها سهولة إعتبار المسلم كافرا أو بحكم الكافر , يرجع إلى التشابه في المنهج الفكري , الذي إنتهجه التكفيريون تاريخيا , وإعتماد نفس الاليات في فهم النص الديني , فالمواجهة معهم في الراهن من الاحداث , تحتاج إلى شدّة ولين , شدة في المواجهة السياسية وليس الحرب لأن الحرب تقوّيهم ولين في المواجهة العقائدية , ولا بد من أن تترافق هذه المواجهة مع الحوار الفكري العقدي , وخاصة أنه الحركات السلفية التكفيرية الراهنة تستند في التعبئة على مظلومية يعيشها جمهورها في ظل سلطات مستبدة , ومن هنا يَسهُل إستغلالها في مشاريع سياسية تحت مسميات مذهبية .