حين بلغني خبر موتك ،بقيت جامدا مكاني ، مع أني كنت أترقبه كل يوم ، وأحتمل سماعه كل ساعة .... بقيت صامتا أترقب شيئا ما في داخلي يفلت من مكانه ، كان الخبر اشبه بالصعقة ، كأني لم أقرأ ذات يوم : كل نفس ذائقة الموت ، هرعت الى منزلك في مدخل الكاظمية أتصفح الوجوه التي سبقتني إليك ، عانقتهم بذات الذهول الذي تغمره دموعهم ،دون أن أنبس او ينبسون ببنت شفة ، سوى إشارتهم أن جسدك لا يزال مكانه ،حين استراح للمرة الأولى والأخيرة على كرسيك الخشبي ، لأنك حين استسلمت للموت لم تلق به على فراشك ، كنت تكره الموت على الفراش ، اردت أن تموت واقفا فخذلك جسدك ، منذ عقود لم يعتد هذا الجسد على الخمول والدعة والراحة ، تنقل بين المدن والمنابر والعواصم ، ينتزع العراق من مخالب الوحوش الكاسرة ، وينهي فصول العذاب لشعب لم يذق إلاه طعاما وشرابا،لذلك حملته في عقلك وقلبك ولسانك ويدك وضميرك ،وطفت به عواصم اللعنة والإثم والقرار ، فعرفت وحدك أسرار الطريق الى بغداد،رغم تردم الآخرين في محاولات الوصول اليها، وفشلهم في سحبها من قبضة الجلاد والجزارين ، كنت وحدك من استنسخ مفاتيح البيت الأبيض والكونكرس الأمريكي والغرف البريطانية التي جاء قطارها بالبعث الصدامي ، لتقنعها بالتراجع عن دعمها للجلاد وانحيازها لشعب يريد السلام والخلاص .
كنت حين التقيتك عام 1991 ، التقيت بالعراق بين عينيك ، عرفت أنك تجيد السباحة في المحيطات ،وحين اتخذت شجاعتك صلاح الدين مقرا لانطلاقته ، عرفت أن مسافة الوصول قريبة جدا، وأن هذا الجسد المتين سيحمل الجميع الى العاصمة ،كنت أحببتك منذ عرفتك ووثقت بخطاك ومدى بصرك ، في وقت كان الآخرون من زعاطيط السياسة يرشقونك بألسنتهم التي هي أطول وأشد ما عندهم ، وحين فوجئوا بوصولك الى هدفك ، وشموا رائحة السلطة في جسدك، تزاحموا عليك وتدافعوا حولك، حتى ضعت بين زحامه ونأيت بنفسك ، ظنا منك بصحوة ضميرهم وعرفانهم بالجميل الذي لم يحلموا به ،لكنهم نهشوا فطيسة السلطة وتقاسموا لحمها أمام عينيك .
لقد وقعت روحك وجسدك الملقى على كرسيك الخشبي بين مطرقة من خسروا السلطة بسببك ، وسندان من ربحها بسببك ، فأجمعوا على حربك ومكافأتك بإقصائك وعزلك ،لكنك لم تهن ولم تنكل ،بقي العراق وأهله همك الأول والأخير ، حتى نزعك الأخير ، وهو أول استراحة لك في رحلتك العصية الشاقة ، ليواصل الشرفاء من بعدك معاناتهم في رحلة الشقاء العراقي الطويل