أثبتت سياسة «الترقيع» عدم جدواها، بدليل الوصول إلى الحائط المسدود رئاسياً وحكومياً ومجلسياً، وبالتالي الاستمرار على هذا المنوال سيكون له تداعيات خطيرة وكارثية، خصوصاً أن لا حلول في الأفق، فالفراغ الرئاسي مفتوح، والنفايات من تعقيد إلى آخر، ومجلس الوزراء معطّل بفعل الشروط العونية المستحيلة، ومجلس النواب عالق بين أولوية ميثاقية أو مالية. وفي موازاة هذا الواقع المأزوم والمقفَل سياسياً بشكل غير مسبوق منذ انتهاء الحرب اللبنانية يَظهر أكثر فأكثر عجز القوى السياسية واستسلامها للأمر الواقع، إلى درجة غياب القدرة ليس لانتخاب رئيس للجمهورية يتطلّب انتخابُه معطيات إقليمية غير متوافرة، بل لحلّ أزمة من قبيل النفايات لا تحتاج إلّا لقرار داخلي يُشعِر اللبنانيين بوجود سلطة قادرة على اتّخاذ القرارات وتطبيقها لِما فيه مصلحة البلد وشعبه. وكلّ ما يُطرح اليوم مجدداً عن خيار ترحيل النفايات بعد إفشال خطة وزير الزراعة أكرم شهيّب ما هو سوى عملية إلهاء للّبنانيين وتخدير لهم تجنّباً لمواجهتهم بالحقيقة المؤلمة أنْ لا حلّ لأزمة النفايات التي ستبقى في الشوارع تهدّد صحّة اللبنانيين إلى أجل غير مسمّى. ومن الواضح أنّ هذا الوضع أصبح مولّداً للأزمات لا للحلول، وأنّ الطريق الوحيد لإحداث صدمة سياسية إيجابية تكمن في الخروج من سياسة الترقيع نحو تسوية سياسية على طريقة السلّة المتكاملة لانتخاب رئيس جديد وتأليف حكومة والاتفاق على قانون انتخاب جديد، وما سوى ذلك يعني التقدّم بثبات وبطء في آنٍ معاً نحو الانهيار. فيما رفضَ رئيس الحكومة تمام سلام تعيين جلسة لمجلس الوزراء من دون ضمان الوفاق على خطة النفايات، بادَر رئيس مجلس النواب نبيه بري الى تعيين جلسة تشريعية في 12 و13 تشرين الثاني الجاري من دون ضمان ميثاقيتها وجدول اعمالها، ولكنّه يأمل في ان يتمكّن من تأمين ذلك في الايام القليلة المقبلة.

ويأتي موقف سلام الرافض نتيجة إخفاق القوى السياسية، لا سيّما المعنية مباشرةً بأمكنة المطامر، في إنقاذ الخطة، على رغم المأساة البيئية والصحية التي تطاول أربعة ملايين لبناني. وقد بدا حريصاً على عدم حسم موقفه قبل استنفاذ كلّ السبل، ومن أبرزها اليوم خيار ترحيل النفايات، وهو مشروع يمكن ان ينفَّذ بحوالى اسبوعين إذا كانت النيات صافية ولم يتحوّل هذا الخيار بدوره مأزقاً جديداً في الكباش السياسي القائم في البلاد، لا بل في المنطقة.

وعلمت «الجمهورية» في هذا الإطار أنّ المواقف الاخيرة بخصوص النفايات كانت مواقف سياسية تهدف إلى كسر الحكومة وإبقاء ملفات جانبية مشتعلة من أجل تأبيد الفراغ الرئاسي، وهذا أمر أغاظَ الرئيس سلام ودفعَه الى ان يجري سلسلة اتصالات لمعرفة ما إذا كانت القوى السياسية جادّة في طرح موضوع الترحيل.

ويعتقد سلام أنّه لم يصل بعد أمام الحائط المسدود، خصوصاً أنّ المرجعيات الدولية تضغط عليه من أجل عدم اتّخاذ الموقف الذي سبق ان هدّد به. ويتّضح من أجوائه بأنّه أدرك أنّ موضوع استقالة الحكومة غير جائزة قبل انتخاب رئيس جديد للجمهورية.

درباس

وعشية سَفره الى الاردن زار الوزير رشيد درباس السراي الحكومي أمس، وقال لـ«الجمهورية»، ردّاً على سؤال: «إنّه وجَد الرئيس سلام غيرَ متفائل، لكنّه لن يسدّ الباب امام أيّ مقترحات. وهو لا يزال متريّثاً ولن ينفّذ شيئاً بالقوّة ولن يشتبك مع الناس، وسيصارح الرأي العام بكلّ ما جرى عندما يبلغ مرحلة اليأس الكلّي».

وعن إمكان ترحيل النفايات الى الخارج، قال درباس: «الترحيل ليس ولادة حلّ جديد بل دفن حل قائم»، مشيراً إلى أنّ كلفة الترحيل باهظة جداً. وأوضَح: النفايات الموجودة حالياً لا يمكن ترحيلها لأنّها تخمّرت».

حرب

وقال الوزير بطرس حرب لـ«الجمهورية»: «طبعاً الوضع مُربك ودقيق ومعقّد، ووجود الحكومة من دون القدرة على القيام بأيّ شيء، أمر غير طبيعي ويَطرح تساؤلاً حول جواز استمرارها في حالة العجز المطلق الواقعة فيه، وفي الوقت نفسه يطرَح السؤال التالي من زاوية المسؤولية: ما هي النتائج التي يمكن ان تترتّب على استقالة الحكومة خصوصاً أنّها لا تزال المؤسسة الدستورية القادرة على تسيير شؤون البلد وفي حال سقوطها يقع في جمود كامل؟، والسؤال هنا مطروح على ضمائرنا جميعاً، خصوصاً أنّنا من الرافضين استمرارَ الحكومة عاجزةً عن القيام بأيّ عمل».

وحمَّل حرب مسؤولية فشل خطة النفايات الى الأطراف السياسية التي حاولت استغلالَ الموضوع لتوظيفه سياسياً وانتخابياً، وعدم تحلّي أيّ طرف سياسي معني بشجاعة المسؤول ورجل الدولة لتنفيذ القرارات التي تُمليها الضرورة، والتي قد لا تكون شعبية، لكنّها ضرورية لمصلحة الوطن وجميع اللبنانيين، وهذا يُدلّل على هزالة مستوى الطبقة السياسية في لبنان وعلى الخطر الكبير الذي يتعرّض له البلد في ظلّ هكذا عقلية سياسية سائدة».

وهل برأيه أنّ الجلسة التشريعية ستُعقد، وهل هي ميثاقية في حال غاب عنها «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»؟ أجاب: «تبَلّغنا بموعد الجلسة في الإعلام، إنّما لم نتبلّغ بعد بجدول اعمالها، وفي ضوئه نحدّد موقفنا، إلّا أنّ الرئيس بري اعتمد بصورة عامة عمليةَ عدم انعقاد المجلس إذا لم تكن مكوّناته الأساسية الوطنية والطائفية والمذهبية موجودة، ولا أعتقد أنّه سيكسر القاعدة.

لكن بما أنّ هناك ضرورات كبيرة أبعد بكثير من مواقف هذا المكوّن أو ذاك، هنا طبعاً يفترض بنا عندما نتبلّغ جدول الأعمال أن نحدّد موقفَنا من الجلسة في ضوء الضرورات، وعلينا إيجاد المخارج لكي نوفّق بين تأمين مصلحة البلد وعدم انهياره اقتصادياً ومالياً من جهة، وعدم إيقاعه في جمود وشَلل كاملين، مع الأضرار الكبيرة الناتجة عن ذلك من جهة أخرى».

وزراء «الكتائب»

وكان وزراء حزب الكتائب: رمزي جريج، سجعان قزي وآلان حكيم، زاروا سلام للتضامن معه، وتمنّوا عليه ان يكشف للرأي العام اللبناني «حقيقة ما يجري ومَن هم الذين يعطلون الأمور، سواءٌ أكان في قضية النفايات أم في أيّ قضية أخرى».

وأوضَح جريج أنّ الوفد تمنّى على سلام توجيه دعوة لمجلس الوزراء للانعقاد في القريب العاجل لبحث القضايا التي تهمّ حياة الناس، إلّا أنّ الرئيس سلام أبدى تخوّفه في حال انعقاد جلسة لمجلس الوزراء ولم تؤدِّ إلى نتائج ملموسة، فتكون خيبة الناس أكثر ممّا ما لو لم تُعقد».

ملفّ النفايات

وفي هذه الأجواء، انتهت المساعي التي جرت لتحديد الساعة الصفر لتطبيق خطة النفايات التي أقرّها مجلس الوزراء بالصيغة السابقة ودعَت الى تنفيذها هيئةُ الحوار الوطني، بالعودة الى نقطة الصفر، وفتحَت الباب امام الخيارات البديلة، ومنها تصديرها أو تسفيرها إلى الخارج، على رغم ما يوجد أمام هذه الخيارات من مصاعب تقنية ومادية وربّما سياسية، إنْ جرى البحث بموضوع تصديرها إلى الأراضي السوريّة.

وأكّدت مصادر رئيس الحكومة الذي عرضَ مع الوزير أكرم شهيّب لملف النفايات، هذه الأجواء «الزفت» على سلبياتها، وقالت لـ«الجمهورية» مساء أمس إنّ «الجو سيّىء»، وقد وصلنا إلى ما كنّا نخشى من بلوغه نتيجة عدم تقيُّد عدد من الأطراف السياسية بالتزاماتها وبما تعهدت به في كلّ المناسبات، من الجلسة التي أقِرّت فيها الخطة الى طاولة هيئة الحوار وصولاً إلى الوعود بمطمر في البقاع ومنه الى بلدة الكفور في الجنوب وعادوا بنا إلى «الكوستابرافا» حيث طُمِرت كلّ الجهود التي بُذِلت في أسوأ الظروف وكأنّنا نعيش فترةً من الترف السياسي لئلّا نقول بالنَكد السياسي،

وكأنّه ليس لدينا وليس لدى غالبية اللبنانيين ما يَشغل بالهم من هموم اقتصادية ومعيشية لنزيد من المخاطر المترتّبة على البيئة وسلامة وصحّة الناس.
وأضافت المصادر: «إنّ العودة الى نقطة الصفر مسؤولية الجميع، ولو بادَلونا بالصدق لكُنّا بَلغنا مرحلة متقدّمة ممّا خطّطنا له بكلّ مسؤولية.

ولفَتت المصادر الى أنّ العودة الى خيارات التصدير أو التسفير باتت واردة، في وقتٍ كنّا نعتقد أنّها ستكون آخرَ خرطوشة لم نكن نتمنّى استخدامها بالنظر الى كلفتها وشروطها غير المتوافرة في الكثير من الحالات التي نعيشها.

وأكّدت المصادر أنّ امام الرئيس سلام عروضاً عدة في هذا الاتّجاه، منها ما هو جدّي ومنها ما هو غير جدّي، وأنّ البحث فيها بدأ بالنظر إلى ما تحتاجه للوقوف على كافّة التفاصيل التقنية والمالية والسياسية.

المطارنة الموارنة

وفي صرخة جديدة حملت طابعاً سياسياً ومعيشياً، دعا مجلس المطارنة الموارنة الى انتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية، مشيراً إلى أنّه «بانتخاب رئيسٍ للدولة تستقيم الأمور وينتظم عمل المؤسّسات». وطالبَ الكتل السياسية والنيابية «التقيّدَ بالدستور واحترام الميثاق الوطني، لكونهما ركنَين أساسيَّين لقيام الدولة اللبنانية بكلّ خصوصيّاتها. فلا مخارجَ لأزمات البلاد من دونهما».

وتوقّف المجلس عند شلل المؤسّسات الدستورية، وعجزِ الحكومة عن معالجة قضايا المجتمع الملِحّة، وفي طليعتها ملفّ النفايات، ومطالب الموظّفين والعمّال والمعلّمين، وقضايا الكهرباء والماء وسائر الخدمات الإنسانية والاجتماعية».

وأعربَ عن دعمه «مطالبَ المجتمع المدني المحِقّة، مع الحِرص ألّا تشوّهَها وسائلُ عنف أو اعتداء»، مطالباً المسؤولين بسماع صوت المجتمع، معتبراً أنّ «مِن واجبهم الأساسي خدمةَ الخير العام. لكنّ ما نشهدُه اليوم من خَلط بين الخير العام والمصالح الخاصة، ومن ربط مخيف لقضايا الناس الحيوية بالصراعات السياسية، لهو أمرٌ مخجِل يشوّه وجه لبنان المعروف عنه بأنّه رائد النهضة والحضارة في هذا المشرق».

ولفتَ المجلس الى «الوضعَ الاقتصادي الذي يعاني ما يعانيه نتيجةَ التأزّم السياسي الحاصل»، مؤكّداً «ضرورة التبصّر بالأزمة الاقتصادية التي تنبئ بمستقبل غامض، وإذا بقيَت على حالها ستُضاف هي أيضاً إلى المسبِّبات التي تكبّل لبنان سياسياً، وتجعله في عداد الدوَل المفلِسة».

مجلس المفتين

من جهته، أبدى مجلس المفتين في لبنان خشيته من «ضياع الوطن في ظلّ استمرار الفراغ الرئاسي الذي هو الأساس في وضع لبنان على السكّة الصحيحة، وإلّا سنظلّ نعاني الخلل مهما صَمدنا في وجه العواصف التي تشتدّ بين الحين والآخر، تحت عناوين شتّى، متّخذةً وسائل وذرائع عدة لا جدوى منها».

وناشدَ المجلس المعنيين «انتخاب رئيس للجمهورية فوراً، وإلّا فإنّ نتائج تأخير انتخاب الرئيس ستكون كارثية أكثر ممّا نتصوّر، ولن تقتصر على الفوضى والخراب وانهيار مؤسساتنا، بل ستتعدّاها إلى فقدان كلّ مكوّنات الدولة».

وشدّد على «ضرورة دعم الحكومة ورئيسها تمام سلام، الصابر المناضل في الظروف الصعبة التي نمرّ بها، وأهمّية مؤازرته ودعمه في إيجاد المخارج المناسبة، بعيداً عن الاعتبارات والمصالح الشخصية».