التقليدُ ـ أي اتّباعُ الفقيهَ المجتهدَ ـ أحدُ الدوائر المحيطة ببنيان الفكر الشيعي، وأمتنُ حبلٍ يقوم بتطويع المكلَّفين للممارسة العمليّة للدين، أي الفقه، والأخير هو أحد فَرْعَيْ ممارسةِ الدّين بعد الممارسة النظريّة (العقيدة). والتقليد ـ الاتّباع الفقهيّ، ليس محصوراً بالمذهب الشيعي قطعاً، فهو راسخٌ في بنية الفكر الإسلامي، فها هو المذهبُ السّنيّ قد أبقى مُكلَّفيه أسيري مذاهبَ أربعةٍ منذ ألفِ عام، وذلك بعد ترسميها في القرن الرابع الهجري ترسيخاً لجدليّة الديني والسياسي التي حُكمْنا بها منذ ذلك الحين، وهو ترسيمٌ ترافقَ مع ترسيمٍ أعتى وأعنف وهو ترسيم العقيدة (الممارسة النظرية للدين)، وذلك بعد القضاء على الحركة العقليّة التي مثّلتها المعتزلةُ حقّ تمثيل فكانوا أربابَ النّظر وآباءَ العقلِ الأوّل في الإسلام، وقد أعلنَ (القادرُ بالله) "قانونَ الاعتقاد" الموسوم باسمه، المماثل لقانون الإيمان المسيحي (إلياذةُ) قسطنطين و(إنجيلُ) حواريّيهِ قساوسةِ نِيقْيَة... في عمليّة الترسيم هذه توقّف العقلُ عن الضخّ وشُلِّ الوعيّ فوقفَ التاريخ هناك...
وكلُّ ما تلاه من إنتاج جرى عبر عمليّات: إعادة تدوير، واستنساخ، واقتباس، وتضمين (تناصّ) ونسخ، وتزويق...، لتُتوّجَ تلك المرحلةُ بفقهها (الرّابوعيّ) ـ المذاهب الاربعة، مرجعيةً مُثلى، متعالية، ونهائية تدور خارج الزمان والمكان ، وكأننا أمام بَعْثٍ جديد . قال ابنُ عابدين: " إنّ القياسَ ] الاجتهاد [ بعد الأربعمائة منقطع". وها هو الفقه الشيعي بعد صراعٍ مع أخيه اللدود السنّي يثبتُ حقّه في الاجتهاد كرأيٍ آخر خارج قيود السلطان، وسياطِ الترسيمات، إلا أنّه سُرعانَ ما اتخذ هذا الاجتهاد رافعةً للتقليد ليجعل منه أداةً أخرى للاستتباع، فيرسّخ التقليد شرطاً أساسياً لجواز الأعمال. فبالتقليد يتعيّنُ التكليف ويتحدّدُ صراطُ المُكلَّف، وتصحّ أعمالُه وتجوزُ معاملاتُه وتُتَقَبّلُ عبادتُه، فالطريق إلى الله تمرّ عبر الفقيه! وها هو الفقيه يعلنُ آيتَه مفتتِحاً بها دستور الإسلام (الفتاوى) مستنصِراً بهيبة الدين ومِنعته، بأوامِرهِ ونواهيه ليشيدَ جسرَ العبور إلى الله:(يجب على كلّ مكلَّفٍ لم يبلغ رتبة الاجتهاد أن يكون في جميع عباداته ومعاملاته وسائر أفعاله وتروكه مقلِّداً أو محتاطاً...).
ومع انّ منطوق هذه الجملة تكفي ليدركَ الإنسان مفهومَها ـ أي حرمة العمل بلا التقليد ـ لكنْ دفعاً لالتباسٍ ممكن،وقِصر نظرٍ من العامّي "الجاهل" لمراد الجملة ـ مفهومِها، يعمد الفقيه مجدداً للتأكيد علىه بالقول: (عملُ العاميّ بلا تقليد ولا احتياط باطل ]يضيف اليها البعض كلمة عاطل[ لا يجوز له الاجتزاءُ، إلا أنْ يعلمَ بمطابقته للواقع أو لفتوى من يجب عليه تقليده فعلاً). ولأنّ الواقعَ سرُّ الفقيه وحدَه وإصابتُه وهمٌ للمُكلَّف، تُستكمل ـ هنا ـ عملية الاحاطة المطلقة بالمُكلَّف المسلم فيعلن استسلامه المطلق للفقيه، ليصدرُ الفقيهُ بعدها واحدةً من حقائقه العلميّة بالتأكيد على عجز الأكثريّة البشريّة عن الإمساك بتقنيّات الاحتياط...!
وليس الكلام هنا إلا عن نتائج التقليد ووظائفه، وليس عن أدلّته ومبرّراته الشرعية، إذ إنّها متهافتة، ومُستجْمَعة بكُلفةٍ عالية، ومصطنعةٌ اصطناعاً، ومبتورة من سياقاتها، تعتمد الإسقاطَ الذي هو فخّ المعرفة وحفرتُها، وخصوصاً لجهة استنادهم إلى العقل كأقوى حجّة ودليل على وجوب التقليد، حيث يظنّ الفقهاءُ بوحدة الممارسة العقلية للإنسان في مجال الفكر والثقافة والاجتماع الإنساني وأنّ "قَطْعَهمْ" العقليَّ ـ بضرورةِ وَوجوبِ التقليد ـ شاملٌ لبني جنسهم، ولم يلاحظوا إطلاقاً أو يقرأوا عمليّات نقد العقل ولا نتائج تفكيك بنيته في تاريخٍ طويل وقاسٍ من الحَفْر والتنقيب في الذات الإنسانية، حيث تقوّضَ (العقلُ القَبْليّ)، وتهدّمَ التأمّلُ المجرّدُ أمام العلوم التجريبية، وانزاح الوجدان عن إدراكِ الحقائق...
وفي حين لا يعتمد الفقهاءُ العقلَ كدليلٍ شامل، بل وينقضونه إذا ما شاؤوا في مباحث أخرى، فإنّ هذا العقل (الممارسة العملية للعقل) لا يقرّ بلزوم التقليد ولا بضرورته، وإنّ أقصى ما يمكن إثباته هو عملية الرجوع من الجاهل الى العالِم، دون أن يكون لهذا الأخير أية سلطةٍ معرفيّة، أو قِوامة، أو هيمنة، أو وجوب اتّباعْ. وبالتالي فإنّ أيّ حكمٍ شرعيّ لا يمكن إصداره على القاعدة التالية، المفتقِرةُ الى البرهان: (ما حكَمَ به العقلُ حكمَ به الشرعُ!
وما يثيرُ الدّهشة أيضاً أنّ فتوى وجوب التقليد هذه تنطوي على مصادَرةٍ بحقِّ المُكلَّف ـ الإنسان المسلم، إذ كيفَ يحكمُ الفقيهُ على المُكلَّف بوجوب تقليده أو بوجوب التقليد عموماً وهو ـ بعدُ ـ لم يقلّدْه، ولم يتبنّاه فقيهاً، فالمفترض أن فتوى وجوب التقليد داخلية ـ أي داخل حقل الفتاوى وليس خارجها ـ فهو ، ههنا، يصادر للمسلم حريّته مجدداً ويُلزمه بفتواه(فتوى التقليد) قبل أنّ يتّخذ المكلّفُ مرجعَه الفقهيّإنّه التقليد، بثنائيّته القاتلة (وجوب/حرمة) (إثبات / نفي) استعبادٌ للفكر والنّفس، واغتيالٌ للوعي، حتّى غدا الفقيهُ نفسُه مُقلِّداً، يفاخر بعدم الخروج عن تعاليمِ المشهورُ، ويعلنُ خضوع...!َه للإجماع المحصَّل، واتّباعه المطلق للسّلف، و ينسخُ منه حتى ألفاظَهُ وحروفَه... وتسألُ! ما سرُّ هزيمتِنا
الشيخ عباس النابلسي