في البيئة الموالية لبشار الأسد، كما في الحلقة الضيقة للنظام، فرضت «نهاية العهد» مناخها على الجميع. سبق أن مرّوا في الأعوام الماضية بمراحل مشابهة، إلا أنها هذه المرّة أكثر عمقاً وجديّة. كان نقل رئيس النظام وحده في طائرة عسكرية، وجلوسه وحده في مواجهة سادة الكرملين، كافيَين لاستنتاج أن الأمر يتعلّق بالأسد شخصياً وليس بمحادثات بين دولتين، وإلا لوجب حضور بعض «المرافقين» من وزراء أو مستشارين. وطالما أن البحث «شخصي» فهو ما كان ليعني سوى «مصير الأسد» الذي يعتبر معظم عواصم العالم أن حسمه يفتح الطريق إلى الحل السياسي. في الحقبة السابقة، جعل الإيرانيون من «بقاء الأسد» نوعاً من «خطٍّ أحمر»، أما الروس فجعلوه قيد التداول بعد ثلاثة أسابيع من بدء عملياتهم الجوية، لكنهم يحاولون إيجاد الإخراج المناسب.

 

 

وفي البيئة الموالية أيضاً، ازدادت الانتقادات على مواقع التواصل الاجتماعي، متناولة الأسد في مسائل شخصية أو أنشطة القريبين منه، خصوصاً في النزاعات الناشبة بين «مكتب متابعة الشؤون الاجتماعية» و «الأمانة السورية للتنمية» على ميزانيات «دعم أسر الشهداء» وعلى الحصص من تجارة «مساعدات الأمم المتحدة» التي يوزَّع بعض منها ويصادر جُلّها ليعاد بيعه. وكانت الهزائم التي تعرضت لها قوات النظام جعلت عائلات العسكريين القتلى تسلّط الأضواء على الفساد المتفشّي وبذخ فئة معينة من الضباط و «جيوش الشبّيحة المرافقين» التي تواكبهم. كما أن ظروف سقوط بعض المواقع وشَت بتواطؤ ضباط أو ارتشائهم، لكنهم مع ذلك استمرّوا على رأس عملهم دون مساءلة، في حين أشار البعض إلى أن الرصاص الذي يطلق ابتهاجاً بخطب الأسد كان يكفي لإنقاذ أولادهم الذين قضوا بسبب نفاد ذخيرتهم.

 

 

لم يسبق لمتابعي أوضاع النظام عن كثب أن لمسوا مثل هذه المرارة لدى الموالين الذين ينهشون الأسد حالياً ويحملونه مسؤولية ما حصل، من الفشل في إدارة الأزمة ثم الفشل في حسمها، وصولاً إلى «بيع البلد» إلى الإيرانيين ومن ثَمّ تسليمه إلى الروس. فالمزاج الداخلي لم يعد مختلفاً عن الجو الخارجي، وفقاً لشهادات موالين يتمنّون الآن أن يستمر الضغط الدولي لتأكيد «رحيل الأسد»، ورغم أنهم يختلفون مع المعارضة في منطلقاتها إلا أنهم صاروا يلتقون معها على أن بقاءه إطالة للأزمة من دون أي فائدة. ويبدو أن الوجود الروسي أسقط آخر الأوهام لدى الموالين الذين سجّلوا أن بنيامين نتانياهو كان آخر مَن اجتمع مع فلاديمير بوتين للاتفاق على قواعد الاشتباك قبل أن يعطي الأخير أوامره للبدء بالحملة الجوية، وهالهم أن تقصف إسرائيل في الجولان في اليوم التالي ردّاً على قصف من الجانب السوري، ورغم أن دمشق نفت، إلا أن الإسرائيليين أكدوا قصف ما تسمّى «كتائب المقاومة السورية» التي اختفت ولم تعد تظهر في المنطقة.

 

 

راهن النظام على روسيا، وانتعش بالضربات الأولى، لكن مسار المعارك البرّية خيّب توقعات الروس، لذلك فضّلوا العودة سريعاً إلى سيناريو الحل السياسي. وراهن الإيرانيون على روسيا، بل شاركوها في التخطيط، ورحّبوا بالتغيير الذي طرأ على المعادلة الميدانية، لكن التنسيق الروسي المتوقّع مع إسرائيل صدمهم، إلى حدّ أنهم لم يعلّقوا عليه سلباً أو إيجاباً، كما لو أنه لم يحصل. لا يستطيع النظام وإيران القول أن الروس فاجأوهما، لكنهما ربما توقّعا أن تؤجل موسكو طرح الجانب السياسي إلى ما بعد الشهر الثالث من التدخّل، أقلّه لمنح المعارك البرّية فرصة كاملة. صحيح أن هذه الفرصة لم تُلغَ، لكن الواضح أن الروس لم يشأوا رهن خياراتهم بها أو بتنسيقهم الأساسي مع الإيرانيين. والأرجح أن توقيت استدعاء الأسد لمفاتحته بتزامن المسارين العسكري والسياسي شكّل صدمة أخرى. قبل ذلك، كانت دمشق وطهران تيقنتا بأن روسيا تعمل وفقاً لحساباتها أولاً، وبأنها ألزمت نفسها بخطّة زمنية غير مريحة لهما، لكن الأهم أنها تعمل بالشروط والمحدّدات التي شرحتها لكل من اتصلت بهم.

 

 

ماذا قال الروس وماذا فعلوا؟ قالوا أنهم يريدون إعادة الاعتبار للجيش السوري، الذي كان يُعتبر دائماً ورقتهم السورية الأكثر أهمية. عندما تحدث الأسد في خطابه الأخير عن هزائم الجيش وشكا من نقص في العديد والسلاح، «كان يتوجّه إلينا» وكان يشير عملياً إلى أن إيران «لم تحقق شيئاً على الأرض»، كما قال ميخائيل بوغدانوف للعديد ممن التقاهم، «لذا قررنا القيام بعمل إسعافي، فقد دعونا دائماً إلى الحفاظ على المؤسسات وأبرزها الجيش، ولذلك سنضرب كل مَن هو خارج الجيش، بما في ذلك الجيش الحرّ، وسنتيح الفرصة للجميع إما للالتحاق بالجيش أو للانضمام إليه». وفي نهاية الأسبوع الأول من تشرين الأول (اكتوبر) الجاري، التقى بوغدانوف على مدى ثلاثة أيام في باريس مع اثنين وأربعين ضابطاً جاء معظمهم من تركيا ليعرض عليهم أهداف التدخل الروسي. ويبدو أن موسكو، التي تجاهلت كلياً معاناة الشعب السوري وطموحاته، لم تستطع على الأقل تجاهل الأسباب التي دفعت بهؤلاء العسكريين إلى الانشقاق أو النأي بأنفسهم عن الصراع، ولا يمكنها الآن أن تدعوهم للعودة إلى الجيش بأوضاعه وهيكليته التي فضّلوا الابتعاد عنها.

 

 

لم تتأخر موسكو، بعد الضربات الأولى لـ «الجيش الحرّ» ونفيها استهدافه، عن إطلاق الرسائل بلسان سيرغي لافروف إلى هذا «الجيش» بدءاً بعدم اعتباره «منظمة إرهابية» وصولاً إلى إبداء الاستعداد لإسناده بقصف جوي إذا قاتل تنظيم «داعش». وعندما ذُكر أن قوات للنظام في الحفّة وحمص وإدلب وغوطة دمشق تعرضت «بالخطأ» لقصف من الطيران الروسي، تبيّن أنها لم تضرب خطأً وأنها ليست تابعة للنظام، أي للجيش، بل هي لميليشيات «جيش الدفاع الوطني» و «اللجان الشعبية» و «كتائب البعث» التي أنشأتها إيران ودرّبتها وسلّحتها، وهي الآن مدعوة للانضمام إلى «الفيلق الرابع» المستحدث لاستيعابها خارج الإمرة الإيرانية. ولعل هذا المناخ الجديد الذي يحاول الروس إشاعته هو ما دعا «الجيش الحرّ» في الجبهة الجنوبية (درعا) إلى توجيه «رسالة إلى الشعب الروسي» وتولّى أحد الضباط بثّها على اليوتيوب باللغة الروسية، ليلفت إلى أنه تعلّم وتدرّب في روسيا ولا يريد «افغانستان ثانية» يقاتل فيها ورفاقه ضد الروس.

 

 

بمعزل عن المسار السياسي الذي يُفترض أن يتعامل مع مشهد بالغ التشرذم والتعقيد، ويواجه تسويات صعبة خصوصاً في ما يتعلّق بتعارض المواقف الدولية من «مصير الأسد»، يبرز التحرك نحو إعادة توحيد الجيش كهدف رئيسي لروسيا، فمن خلاله ستمسك بورقتها الأقوى وستتمكّن من تأمين مصالحها، ولا يبدو أن دورها هذا يلقى اعتراضات جوهرية، إلا أن إيران لم تقل كلمتها بعد، فهي بدأت تخسر مما بنته على المستوى العسكري والأمني. ولترتيب ذلك، يروّج الروس لـ «مجلس عسكري» يبحثون حالياً في تركيبته التي يجب أن تبعث برسالة ثقة إلى سائر العسكريين، ومن البديهي أن ينكبّ على إعادة هيكلة الجيش وتنظيمه، لكن مثل هذه المهمة لن تكون متاحة بإشراف الأسد وتحتاج إلى صلاحيات يملكها هو حالياً ولا بدّ من نقلها كلياً أو جزئياً إلى هذا «المجلس».

 

 

ما يشجّع أطرافاً خارجية كثيرة على دعم هذا التحرّك الروسي أنه يوحي بالحفاظ على الدولة المركزية واستبعاد التشطير التقسيمي للبلد. إذ يسعى الروس إلى إقناع العسكريين بصيغة مفادها أن الجميع قاتل وصمد وحقق ما يستطيعه، أي إلى صيغة «لا غالب ولا مغلوب» كمدخل لترغيبهم بالانخراط في إعادة توحيد القوات المسلحة باعتبارها الجيش السوري وليس «الجيش الأسدي»، وأن الجيش وحده يضمن وحدة سورية. ليس مؤكداً أن عملية استقطاب العسكريين ستكون سهلة، خصوصاً إذا لم تترافق بوضوح مع الجانب السياسي حيث لا تنفع صيغة «لا غالب ولا مغلوب» ولا بد من عدالة انتقالية لإنصاف مئات الآلاف الذين ظلموا كما لا بد من محاسبة النظام ورموزه.