لا يطفو تاريخ المدن فوق سطحها فحسب، بل يختبئ في قعرها. فلبيروت وصيدا ومدن لبنانية أخرى، أسرار في قعر البحر يحاول الخبراء العلميون كشفها. يقول مدير “المركز الوطني للجيوفيزياء” التابع لـ”المجلس الوطني للبحوث العلمية”، الدكتور اسكندر سرسق، إنَّ “سر لبنان في قعر البحر”.
يساهم رسم خريطة قعر البحر في معرفة أسرار تكوّن جبل لبنان الذي يتميَّز بكونه مرتفعاً وقريباً من البحر. وتتشكَّل مدينة بيروت من هضبتين (الأشرفية، ورأس بيروت) لم تظهرا من البحر في الفترة الزمنية ذاتها، إذ هناك فارق زمني بأربعين مليون سنة بين الهضبة الأولى (رأس بيروت)، والهضبة الثانية (الأشرفية).
لا تخبّئ المدن أسرارها في قعر البحر فحسب، بل يعيش ثلثا سكَّان لبنان على الخط الساحلي، ويتوزعون في المدن الكبرى (طرابلس، بيروت، صيدا، صور..)، وتسجل نسبة سبعين في المئة من النشاطات الصناعية، الزراعية، السياحية والاقتصادية على الشاطئ اللبناني (220 كيلومتراً)، وفق مدير مركز علوم البحار التابع للمجلس، الدكتور غابي خلف.
منذ خمس سنوات، تم إطلاق “برنامج البحوث قانا” حول “المراقبة البيئية والتنمية المستدامة للشواطئ اللبنانية”، بدعم من الحكومة الإيطالية (2.3 مليون يورو) لدراسة البيئة البحرية والثروة السمكية، التنوع البيولوجي، رسم خريطة قعر البحر، الكشف عن المعطيات الجيولوجية والآثار المطمورة وينابيع المياه العذبة.
يرتكز المشروع الجديد، الذي يمتد لمدة عام واحد، على دراسة أثر محطّات معالجة المياه الآسنة على البيئة البحرية والتنوع البيولوجي (محطات طرابلس، طبرجا، الغدير وصور)، وتحديد مصادر المياه العذبة الموجودة في البحر أمام الشاطئ اللبناني ونوعيتها (شكا، المعاملتين، القاسمية، صور)، ودراسة أثر مصبّات الأنهار وما تحمله من رواسب على البيئة البحرية والمواصفات الجيومورفولوجية للشاطئ.
يكشف خلف عن بعض نتائج البحوث العلمية في شأن الشاطئ اللبناني، ومنها أنَّ التلوّث الكيميائي محدود، بينما يرتفع التلوث العضوي ونسبة الملوثات العضوية التي تسجّل معدّل 25 ألف مستعمرة في مئة ميليلتر في منطقة انطلياس، وخمسة عشر ألف مستعمرة في مئة ميليلتر في منطقة الرملة البيضاء، بينما لا يجب أن يتجاوز المعدل مئة مستعمرة في مئة ميليلتر.
أما خريطة التلوث الكيميائي والجرثومي للشاطئ فتكشف أنَّ المرافئ الكبرى (طرابلس، بيروت، صيدا، صور) تسجّل تلوثاً كيميائياً. وتظهر منطقتا انفه والمنطقة الممتدة من جنوب صور وحتى الناقورة نوعية مياه جيدة جداً (وحدات البكتيريا قليلة جداً). وتظهر منطقة عكار والمنطقة الممتدة من شكا حتى جبيل (باستثناء منطقة سلعاتا الملوثة كيميائياً) ومنطقة الدامور، نوعية مياه مقبولة، بينما ترتفع نسبة التلوث العضوي البكتريولوجي في منطقة طرابلس (مصب نهر أبو علي شمالاً حتى الملعب البلدي جنوباً)، والمنطقة الممتدة من انطلياس حتى الرملة البيضاء، وصيدا (ما قبل الملعب البلدي حتى جنوب المدينة)، وشمال منطقة صور.
وتظهر النتائج ارتفاع درجة حرارة مياه البحر درجة ونصف الدرجة المئوية خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، وارتفاع نسبة الملوحة. تؤدي تلك التغيرات إلى استيطان بعض الأحياء البحرية مثل سمكة النفيخة السامة التي تغزو البحر، بينما لم تكن موجودة مقابل الشواطئ اللبنانية قبل عشر سنوات. ويشار إلى أنَّه تمّ تركيب أول جهاز إنذار مبكر لأمواج التسونامي في بيروت، يرتبط بشبكة مع دول البحر المتوسط (اليونان، تركيا، مصر وغيرها).
حمزة: لا يحق لنا!
في ظلّ أزمة النفايات التي يعيشها لبنان، يشير الأمين العام لـ”المجلس الوطني للبحوث العلمية” البروفسور معين حمزه، إلى أنَّه ليس من المسموح للبنان تلويث البحر الأبيض المتوسط، فالبحر ليس ملكنا. وتهدد الأزمة الثروة السمكية وحركة البواخر، ومن الممكن أن تدين بلدان البحر المتوسط لبنان بسبب التلوث الذي يتحمل مسؤوليته. ويضيف حمزه أنَّ جميع نتائج البحوث العلمية في شأن الشاطئ اللبناني، تمت إحالتها على الوزارات المعنية لتنفيذ الإجراءات العملية.