قد تكون أسوأ أزمة وطنية يشهدها لبنان منذ بداية تطبيق اتّفاق الطائف إلى اليوم. حتى مرحلة الخروج السوري، على ضخامتها، تمَّ تنظيمها من خلال الاتفاق الرباعي الذي أمَّن الانتقال من مرحلة إلى أخرى. وعلى رغم فداحة أحداث 7 أيار 2008، إلّا أن كلّ القوى السياسية عادت وانتظمت داخل المؤسسات الدستورية. وإذا كان الاستقرار يشكّل النقطة المضيئة الوحيدة في كلّ مشهد التعطيل المتمادي، غير أنّ الاهتراء وصل إلى حدود لا توصَف، وبات يهدّد هيكل الدولة وجوهرَها، فلا رئاسة ولا حكومة، ومصيرُ التشريع يتقرّر اليوم، ولكن أكثر ما أثارَ غرابة اللبنانيين هذه المرّة أنّ أحد أوجه الخلاف ليس على دور لبنان والاستراتيجية الدفاعية وقانون الانتخاب، بل حول قضية يجب أن تكون محطّ إجماع كلّ القوى السياسية وفي طليعة أولوياتها، حيث باتت أزمة النفايات تهدّد الأمن الصحّي والبيئي للّبنانيين، وفي مشهد غير مسبوق ولا مألوف يشكّل نقطة سوداء في السجلّ اللبناني، خصوصاً أنّ أحداً من اللبنانيين لا يعلم حقيقة الخلفيات الكامنة وراء عرقلة تطبيق خطة النفايات. وإذا كان التعويل على الحوار لفكّ لغز العرقلة لم يحقّق النتائج المرجوّة على رغم نجاحه الجزئي في الاتفاق على مواصفات الرئيس، فإنّ الأمل في أن يتحرّك الجسم التشريعي في خطوة تعويضية ولو جزئية عن تعطّل أو جمود الجسم التنفيذي وتحديداً الحكومي الذي يختنق بالنفايات ودخل مرحلة الاحتضار. وفي موازاة انتظار ما سيؤول إليه اجتماع هيئة مكتب مجلس النواب لجهة تحديد جدول أعمال الجلسة التشريعية وما سيتضمّنه من بنود، تبقى الأنظار شاخصة إلى جلسة الحوار بين «المستقبل» و«حزب الله» مساء اليوم، والتي استبقها الرئيس سعد الحريري في موقف شديد اللهجة جاء ردّاً على إطلالات الأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله، في حين أبقى وزير الداخلية نهاد المشنوق حضورَه أو عدمه مفاجأة اللحظة الأخيرة. في ظلّ الواقع المرير والوضع المخزي المستمرّ، خرج المتحاورون من جلسة الحوار بخفّي حنين، فلا حلّوا أزمة الرئاسة المستمرّة، على رغم اتفاقهم على بعض مواصفات الرئيس العتيد، ولا اتّفقوا على حلّ لأزمة النفايات التي ستتوالى فصولها وأضرارها مع تساقط الأمطار مجدّداً، وبالتالي رحَّل رئيس مجلس النواب نبيه بري الجلسة الى الثلاثاء 3 تشرين الثاني.

وكانت طاولة الحوار الوطني التأمت أمس في ساحة النجمة في نسختها الثامنة، في حضور رئيس تكتّل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون، وغياب كلّ من النائب وليد جنبلاط بِداعٍ صحّي، الرئيس فؤاد السنيورة والوزير بطرس حرب بداعي السفر، والنائب سامي الجميّل الذي علّق مشاركته «بانتظار حلّ قضايا الناس الملِحّة والضرورية وفي مقدّمها رفعُ النفايات من الشوارع».

مواصفات الرئيس

ووزّع بري جدول مقارنةٍ بمواصفات رئيس الجمهورية التي سبق أن رفعَها المتحاورون إليه، فحصَل إجماع على أن يكون للرئيس الحيثية في بيئته والقبول من الطرف الآخر، واحترام الدستور وتطبيق الطائف بلا استنساب، وأن يكون منفتحاً وقادراً على تدوير الزوايا، ويحارب الفساد، وأن لا يكون مستتبعاً للخارج، وأن يدعم المقاومة ضد إسرائيل. إلّا أنّ بعض المتحاورين من فريق 14 آذار اقترح ان يكون بند المقاومة في إطار الاستراتيجية الدفاعية وحق الدولة في اتّخاذ قرارات الحرب والسلم.

ولدى مناقشة بند أن ينأى الرئيس بنفسه عن الصراعات العربية، والمقدّم من الرئيس نجيب ميقاتي والوزير حرب والنائب الجميّل، قال ميقاتي: «نحن نتمسّك بمبدأ النأي بالنفس، ليس طبعاً عن الصراع العربي ـ الاسرائيلي، بل النأي بالنفس عن خلافات المنطقة وقضاياها ومشاكلها، لأنّ وضع لبنان حسّاس، وأي أمر يعرّضه للشرذمة بدءاً من حِلف بغداد تاريخياً وصولاً الى الصراع الدائر حالياً». وفي ضوء هذا النقاش ارتُؤيَ إرجاء البحث ببند النأي بالنفس إلى الجلسة المقبلة.

إقتراح عون

ولدى طرح اقتراح «التيار الوطني الحر» انتخاب الرئيس بالاقتراع الشعبي المباشر، تحدّث عون فقال: «لا تستطيع السلطة أن تتكوّن من دون العودة الى الشعب»، وتلا على مسامع المتحاورين الفقرة «د» من الدستور التي تقول إنّ «الشعب هو مصدر السلطات، ومنه تتكوّن المؤسسات الدستورية»، وقال: إذن يجب العودة الى الشعب في انتخاب الرئيس لكي نكون بذلك نحترم الدستور فعلاً لا قولاً، شارحاً أنّ ذلك يتمّ من خلال انتخابات نيابية على أساس قانون عادل.

فأجيبَ عون بأنّ طرحه منطقيّ ودستوري، لكنّنا غير متّفقين على قانون انتخاب، فردّ قائلاً: «نعم تستطيعون أن تقولوا ذلك 20 سنة مجدّداً كما فعلتم من قبل، وفعلياً تجدّدون لأنفسكم بأكثرية غير مطابقة للمواصفات الدستورية، لذلك لا يحقّ لكم التذرّع بعدم الاتفاق على قانون انتخاب للاستمرار في هذا الوضع الشاذ، وأنا أطالبكم بأن تعرضوا علينا من أين تنطلقون في قانون الانتخاب، لكي نصل الى حلّ حقيقي لِما نعاني منه في لبنان على صعيد احترام الدستور وإرادة الشعب. فسَلّم المتحاورون بهذا المنطق على أن يتمّ استكمال نقاش هذا البند في جلسة الثلثاء المقبل.

ملفّ النفايات

وبعد انتهاء المتحاورين من البحث في مواصفات الرئيس، بَحثوا في موضوع النفايات، فطلبَ بري من رئيس الحكومة تمام سلام ان يدعو مجلس الوزراء الى الانعقاد بأسرع وقت ممكن خلال هذا الأسبوع لبَتّ هذا الملفّ. إلّا أنّ سلام رفض، مؤكّداً أنّه لن يفعل قبل التوافق مسبقاً بين القوى السياسية، محمّلاً إياها المسؤولية حتى إيجاد الحلّ المناسب.

وإذ بدا سلام غير مرتاح، قال إنّه يفكّر في الإقدام على خطوةٍ ما في الوقت المناسب، ملمّحاً إلى الاستقالة، ورفع سقف موقفه قائلاً: «مش معقول بكلّ منطقة المتن وكِلّ شي فيها من مقالع ما تلاقوا محلّ للزبالة، وبرج حمّود لازم تتحمّل».فردّ عليه النائب آغوب بقرادونيان بحدّة قائلاً: «نحن تحمّلنا 20 سنة، ومَن استفادَ مِن تحمّلِنا 20 سنة فليتحمّل هو الآن المسؤولية، برج حمّود خط أحمر».

المرّ

بدوره، دعا نائب رئيس مجلس الوزراء السابق النائب ميشال المر إلى معالجة هادئة لملف النفايات، واستمهلَ المتحاورين أياماً، مؤكّداً أنّ لديه حلّاً لمعالجة النفايات سيَطرحه قريباً.

فتفت

وقال عضو كتلة «المستقبل» النائب أحمد فتفت الذي شارك في الحوار لـ«الجمهورية»: «في رأيي أنّنا ندور حول أنفسنا، نربح الوقت أو نخسره، لا أعرف، في انتظار أن يحصل شيء إقليمي دولي، لا أعرف».

وأضاف: «المتحاورون اتّفقوا على ما هو متّفَق عليه، أن يكون لدى الرئيس حيثية وأن يكون مقبولاً ويَطمئنّ إليه الجميع ويدَوِّر الزوايا وقادراً على التواصل ويحترم الدستور ويلتزم تطبيق اتفاق الطائف كاملاً، والرئيس بري أصرّ على إلغاء الطائفية السياسية، ورئيس لا يُرتهَن للخارج». هذه أمور تحصيل حاصل، لكن في الأمور المفصلية كرئيس يلتزم بالمقاومة لم نتّفق، رئيس يلتزم بالنأي بالنفس لم نتّفق.

وعن ملف النفايات، أوضَح فتفت انّ الرئيس سلام كان له موقف واضح وجريء في موضوع النفايات، بعدما طُلب منه تطبيق الخطة والاستعانة بالجيش وقوى الأمن، حيث أكّد أنّه ليس في هذا الوارد إلّا عندما تكون هناك شراكة حكومية حقيقية، وعندما يأتي كلّ الأفرقاء الى الحكومة لا للحضور فقط بل لإعطائه اقتراحات بدورهم في المشاركة. فكيف أطبّق في مطمر في عكّار وليس هناك مطمر في البقاع والجنوب وجبل لبنان؟

ورأى فتفت أنّ حزب الله لا يعطي مطمراً في البقاع لكي يترك القصّة مولّعة، وله مصلحة في ذلك، وهو ليس منزعجاً إذا حصل انهيار في البلد. فمَن يدعم خطة النفايات فليعطِ مطمراً.

الحوار الثنائي

إلى ذلك، تشهَد عين التينة اليوم الجولة العشرين من الحوار بين تيار «المستقبل» و»حزب الله»، في جلسة هي الأولى بعد موقف وزير الداخلية نهاد المشنوق وردّ الأمين العام للحزب السيّد حسن نصر الله.

الحريري

وعشية الجلسة، جدّد الرئيس الحريري الالتزام بالحوار، وقال: «لن نهديَ «حزب الله» فرصة القضاء عليه، نريد له أن يستمرّ في نطاق المصلحة الوطنية اللبنانية دون سواها»، وأكّد أنّ «تيار «المستقبل» لا يرى وظيفةً للحوار الوطني في هذه المرحلة من حياة لبنان، سوى بتّ مصير رئاسة الجمهورية وإنهاء الفراغ في سدّة الرئاسة، والتوافق على شخصية وطنية تعيد الإمساك بمفتاح تكوين السلطة وتفعيل عمل المؤسسات الدستورية».

وقال: «الحوار خيارُنا منذ البداية، وقد بادرنا إليه وتمسّكنا به في أصعب الظروف، وهو ليس مِنّةً من أحد، ولن يكون شقّة مفروشة بأثاث إيراني، يدعو لها حزب الله من يشاء وساعة يشاء».

الجلسة التشريعية

وعشية اجتماع هيئة مكتب مجلس النواب للبحث في جدول أعمال الجلسة التشريعية المرتقبة، علمت «الجمهورية» أنّ اجتماعاً عُقد قبل جلسة الحوار ضمّ بري وعون ووزيرَ المال علي حسن خليل والنائب ابراهيم كنعان، للبحث في موضوع الجلسة التشريعية. وأكّد عون تمسّكه بتشريع الضرورة وبالمفهوم المتعارَف عليه.

واستُكملَ البحث في اجتماع مسائي بين خليل وكنعان في وزارة المال، تمّ خلاله وضع أطُر ومعايير للتوصّل الى تصَوّر مشترك حول تشريع الضرورة. واتّفِق على أن يتواصل كلّ طرف مع الجهات السياسية التي يمثّلها، ويُستكمَل البحث في اجتماع آخر اليوم قبَيل اجتماع هيئة المكتب.
وعلِم أنّ مسوّدةً تمّ تحضيرها تتضمّن مجموعة مشاريع واقتراحات أُعِدّت للنقاش اليوم في اجتماع هيئة المكتب.

«القوات» و«التيار الحر»

وعلمت «الجمهورية أنّ نواب «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» يوقّعان اليوم مشروع قانون معجّل مكرّر لاستعادة الجنسية اللبنانية، وهو الثمار السياسية لوثيقة «إعلان النيّات» بينهما، كما يستمرّان بالإصرار على التفاوض لإدراج قوانين الانتخاب على جدول أعمال هيئة مكتب المجلس من أجل إعادة إنتاج السلطة وتصحيح الخَلل في التمثيل السياسي للمسيحيين.

الحكومة تحتضر

وقالت مصادر وزارية لـ«الجمهورية» أنْ لا جديد على خط الأزمة الحكومية ولا على خط معالجة أزمة النفايات، على رغم أنّ رئيس الحكومة رفعَ الصوت عالياً داخل الحوار، ويمكن وصفُ الحكومة بأنّها تختنق بالنفايات وهي في مرحلة الاحتضار.

تضامن فرنسي

وفي المواقف الدولية، أكّد وزير الداخلية الفرنسي برنار كازونوف «تضامنَ كلّ مِن فرنسا ولبنان لمعالجة ملف اللاجئين السوريين في إطار علاقات الصداقة بين البلدين»، لافتاً إلى أنّ «فرنسا تتحمّل كلّ مسؤوليتها في إطار الجهود الأوروبية الرامية إلى استقبال عدد من اللاجئين».

وزار كازونوف رئيس الحكومة تمّام سلام، وتناولت المباحثات العلاقات الثنائية بين لبنان وفرنسا وسُبل تفعيلها، إضافةً إلى الملفات المتعلقة بالتطوّرات في لبنان والمنطقة، ومنها ملف النزوح السوري والمساعدة التي يمكن أن تقدّمها فرنسا للبنان لمعالجة عبء هذا النزوح».

إلى ذلك، التقى كازونوف وزيرَ الداخلية، وعَقدا مؤتمراً صحافياً مشترَكاً، وأعلنَ عن «إجراءات إضافية، كزيادة المساعدة الفرنسية العينية للبلدان المجاورة لسوريا، لا سيّما لبنان»، فيما قال المشنوق: «لمسنا من وزير الداخلية الفرنسي التقديرَ الكبير للجهود التي تبذلها القوى الأمنية في لبنان من جيش وقوى أمن داخلي وأمن عام».