كل عبارات القدح والذم التي يعاقب عليها القانون أو يجيزها لم تعد تليق بهذه الطبقة السياسية.
لم تكن شتوة الأمس مفاجئة او مباغتة، لا في توقيتها ولا في غزارتها، بل سبقتها مؤشرات وافية كان يفترض ان تكون كافية لاتخاذ تدابير «الحيطة والحذر» على كل المستويات.
لكن، وكالعادة، غرقت بقايا الدولة في برك المياه والعجز، مع فارق جوهري هو ان الفضيحة المبللة امتزجت هذه السنة بأكياس «النفايات البرمائية» التي جرفتها الامطار في كل الاتجاهات، بحيث غمرت القمامة العائمة العديد من شوارع العاصمة والضواحي، في مشهد معيب وصادم لم يسبق له مثيل، وينطوي على الكثير من المخاطر الصحية والبيئية.
والحقيقة ان الامطار الغزيرة لم تجرف فقط أكوام القمامة، بل أخذت معها أشلاء الدولة المفككة والمتحللة التي مضى عليها أشهر وهي تتخبط في ازمة النفايات التي سرت عليها المعايير الطائفية والمذهبية المعتمدة من قبل الطبقة السياسية تقليدياً في التعامل مع كل شاردة وواردة في هذا النظام، حتى باتت المطامر تخضع لقاعدة 6 و6 مكرر، فيما تبدو النفايات أكثر «علمانية» مع اجتياحها كل المناطق من دون تمييز بين انتماءاتها.
واذا كانت فضيحة الامس كفيلة بإسقاط سلطة بأمها وأبيها في أية دولة تحترم نفسها وشعبها، فانها في لبنان تمر بلا مساءلة ولا محاسبة، لتكتمل بذلك المأساة الوطنية التي صار اللبنانيون ضحاياها ووقودها.
ولعل «الغزوة البرمائية» للنفايات يجب ان تعيد تحفيز الناس على الانخراط في الحراك المدني الذي يبقى، برغم كل الملاحظات عليه، الفرصة الوحيدة وربما الاخيرة للضغط والإنقاذ أو القول لأهل الفساد «كفى» كبيرة جدا.
وكان لافتا للانتباه أمس ان بعض الناشطين في الحراك كانوا اسرع من الاجهزة الرسمية في محاولة الحد من خطر تمدد أكوام النفايات الى نهر بيروت (منطقة الكرنتينا) الذي يشهد أكبر عملية تكديس عشوائي لأكياس القمامة على ضفافه!
ولعل الاجدر بطاولة الحوار التي ستلتئم اليوم في مجلس النواب ان تدرس مواصفات المعالجة المطلوبة لملف النفايات قبل ان تناقش مواصفات الرئيس المطلوب للجمهورية، بل يُفترض بالمتحاورين ألا يغادروا الجلسة قبل ان يتخذوا قراراً واضحاً وحاسماً بطي هذا الملف النتن، وإلا فان من يخفق في مواجهة النفايات، لا أهلية له للبحث في رئاسة الجمهورية ولا مواصفات الرئاسة ولا الاستمرار في «حكومة العجز».

خيارات سلام.. تضيق

ومن مفارقات هذه المهزلة المتجددة، أن علامات الاستياء كانت تطفو على وجه الرئيس تمام سلام وهو يتابع عبر هاتفه الخلوي مشاهد اجتياح النفايات لبعض شوارع العاصمة والضواحي بعدما جرفتها سيول الامطار الكثيفة قبل ظهر أمس.
وفيما اكتفى سلام بهز رأسه لهول المنظر، قالت أوساطه لـ «السفير» انه منزعج جداً مما بلغته الامور، وهو بالتأكيد لن يبقى متفرجاً على هذا الوضع البائس والمزري الذي لا يُحتمل، وبالتالي سيتخذ الموقف المناسب في التوقيت المناسب، من دون ان يأسر نفسه بموعد زمني محدد منذ الآن، لافتة الانتباه الى انه يدرس خياراته بجدية.
وأشارت أوساط سلام الى ان جرف مياه الامطار للنفايات في الشوارع هو مشهد مخز ومعيب، ينطوي على إهانة للبنانيين، ويشكل دليلاً فاضحاً على العجز الكامل لمكونات السلطة عن إدارة الشأن العام، مشيرة الى ان التجربة أثبتت ان لا أحد يريد ان يحل مشكلة النفايات.
واستبعدت أوساط سلام عدم مشاركته في جلسة الحوار الوطني المقررة اليوم، في ساحة النجمة، لمعرفته بحساسية الموقف وحراجته، «لا بل ان طوفان النفايات يفرض حضور رئيس الحكومة جلسة الحوار، أكثر من أي وقت مضى، حتى يرفع الصوت مجدداً ويضع الجميع امام مسؤولياتهم».

شهيب.. والمهلة الاخيرة

أما وزير الزراعة أكرم شهيب فقال لـ «السفير» انه سيعطي الاتصالات فرصة لغاية الاربعاء المقبل للبدء في تنفيذ خطة الطوارئ لمعالجة أزمة النفايات، مؤكداً انه إذا استمرت المراوحة حتى ذلك الحين سينسحب من هذا الملف، مشدداً على ان مهلة السماح تنتهي الاربعاء، وبعد ذلك على الجميع ان يتحملوا مسؤولياتهم، متسائلا: لماذا أتحمل وحدي تبعات هذا الملف، في حين يتهرب الآخرون من واجباتهم، ويتصرفون بترف سياسي، متجاهلين او جاهلين فداحة الازمة التي نواجهها!
واشار الى انه إذا حصل توافق عام في الايام القليلة المقبلة، يمكن ان نتصرف بسرعة ونستدرك مفاعيل المطر، أما إذا تواصلت المزايدات وبقيت مسألة النفايات رهينة التجاذبات السياسية العبثية، فسيتفاقم المـأزق وتستفحل مضاعفاته، مؤكداً انه يرفض أن يكون شريكاً في هذه المهزلة، خصوصا بعد الشتوة الاولى التي كانت بمثابة إنذار شديد اللهجة.
وتوقعت أوساط شهيب أن يبادر الى عقد مؤتمر صحافي الخميس المقبل «لكشف المستور.. وتسمية الأشياء بأسمائها».
واللافت للانتباه أن وزير الاشغال استبق الكارثة بالتحذير من انه لا يتحمل اية مسؤولية عما يمكن ان يحصل، وحذت معظم البلديات حذوه برفع المسؤولية عن نفسها. في المقابل، شدد خبراء بيئيون «محايدون» على أهمية تبني خطة الطوارئ التي وضعتها اللجنة الفنية برئاسة الوزير شهيب والتي يفترض ان يبدأ تطبيقها فوراً مع تحسينها وتطويرها، ان لناحية البدء فوراً باعتماد إجراءات التجفيف والفرز واشراك الجميع في تحمل المسؤوليات، او لناحية تعديل الروزنامة الزمنية لتطبيق هذه الخطة مع التطورات التي حصلت في الفترة الأخيرة وتضاعف حجم النفايات أكثر من مرة منذ الإعلان عنها.

خطر التيفوئيد.. والكوليرا

وتخوفت المتخصصة في الأمراض الجرثومية في «الجامعة الأميركية في بيروت» الدكتورة زينة كنفاني من إمكان تلوث المياه الجوفية بمياه الأمطار التي تحمل معها رواسب النفايات. وحذرت من انتشار بعض الجراثيم مثل التيفوئيد، والتهاب الكبد الوبائي «أ»، والفيروسات المعوية التي تسبب التقيؤ والإسهال. وقالت لـ «السفير» ان بعض الجراثيم يمكن أن تنتقل إلى الأفراد في حال تلوث مياه الاستخدام أو مياه الشفة، أو عبر لمس النفايات، أو بواسطة الحشرات من دون وجود خطر انتقال الجراثيم عبر الهواء. ونصحت بأن تغلى مياه الطبخ، والتأكد من نظافة المياه المستخدمة، وتفادي انتقال الحشرات الى المنازل.
وحذر الأستاذ في العلوم الجرثومية في كلية الصحة العامة في «الجامعة اللبنانية» الدكتور نبيل حداد من خطر ظهور داء «الكوليرا» في حال دخول أحد المصابين به إلى لبنان. وقال لـ «السفير» ان ارتفاع حرارة الطقس بعد انحسار الأمطار يساهم في تكاثر الجراثيم لا سيما البكتيريا المسببة للتيفوئيد