يرى الشيخ محمد مهدي شمس الدين أن مظاهر الحزن والعزاء الحسيني هي تقليد عربي قديم ما نزال نكرره إلى يومنا هذا في كل مناسبات الوفاة في البلاد العربية. وفي التقليد العربي القديم المستمر إلى يومنا هذا إلقاء الشعراء للشعر في تأبين الميت، والحداء والبكاء، وإقامة مجالس الحزن والعزاء في البوادي والأرياف لمدة 3 أو 7 أيام واستعادة ذكرى الوفاة في يوم الأربعين، وهي تواريخ تشي بالأصول القديمة السابقة على الإسلام.
وبحسب شمس الدين فإن كربلاء شهدت أول مأتم عزاء للحسين ورفاقه حيث ابتدأ المأتم بعد ظهر العاشر من محرم واستمر طوال الليل، وحتى ظهيرة اليوم التالي الحادي عشر من محرم حين قام العسكر باقتياد النسوة سبايا إلى دمشق. وقد كان مأتماً فاجعاً مهيباً نظراً للتمثيل بجثث الشهداء وفيهم أطفال، "مأتم ارتفع فيه النواح الراعش لهاتيك النسوة الغريبات مع أطفالهن، وهنَّ جميعاً ظماء جياع مروعات بمشاهد الأزواج والأبناء والآباء والأخوة صرعى" . والمأتم الثاني كان في المدينة حين بلغ بني هاشم خبر المجزرة في كربلاء. واشتد المأتم حين وصل الركب الحزين إلى المدينة قادماً من دمشق. وهذا المأتم استعاد التقاليد العربية في مناسبات كهذه، فكانت المجالس تعقد في البيوت، وكانت مآتم الرجال تشمل عبارات العزاء وتبادل الأحاديث عن الواقعة وبعض الشعر، خصوصاً عند إقامة ذكرى المناسبات السنوية. أما مآتم النساء فكانت أكثر حرارة وتشتمل على بيان الواقعة بعبارة عاطفية وبيان مناقب الشهداء يتخلل ذلك شعر النوح، وربما رافق ذلك لطم على الوجوه ولدم على الصدور على ما جرت العادات القديمة. وكان هناك مآتم عرضية عامة انعقدت في طريق مرور قافلة السبايا من كربلاء إلى الشام وداخل القصر الأموي في دمشق، ثم في طريق العودة إلى المدينة. وفي هذه المآتم كانت خُطب السيدة زينب والسيدة أم كلثوم والسيدة فاطمة الصغرى والطفل علي بن الحسين، تثير بين نساء العرب الحزن والبكاء والنحيب ونشر الشعور ووضع التراب على الرؤوس وخمش الوجوه ولطم الخدود. وهي من المظاهر التي ما زلنا نشهدها في كل العزاءات، إسلامية كانت أم مسيحية، سنية أم شيعية، في طول البلاد العربية وعرضها. ولم يجادل شمس الدين في الأصل البابلي/ الكلداني/ العراقي القديم المنتقل عبر مصدرين هما الكوفة ويهود المدينة.
وبحسب الشيخ شمس الدين فإن المأتم الحسيني حافظ على طابعه العائلي العربي وسماته الأساسية على مر العصور، ولم يدخله تغيير يذكر سوى في لغة شعر النوح وفي قصة الواقعة. ومع الزمن تطور المأتم وعرف عدة أدوار قبل أن يتحول إلى مؤسسة ثقافية - اجتماعية ذات أعراف وتقاليد.
فخلال عهود الأئمة علي زين العابدين، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، كان هناك توجيهات تعطي شكلاً محدداً للمأتم، وهو إحياء ذكرى عاشوراء في موعدها من كل عام (اليوم العاشر من محرم) من خلال واحدة من ممارستين مستحبتين: زيارة الحسين لمن كان منزله قريباً من القبر. والتجمع والبكاء في البيوت لمن كان بعيداً عن كربلاء. وزيارة القبور في عرف الشيعة والمتصوفة وأغلبية أهل السُنة والجماعة (باستثناء الحنابلة والوهابية والسلفية) أمر مشروع لا غضاضة فيه، بل هو من المستحبات. وفي عهد الإمام محمد الباقر كان المأتم الكبير يقام عند قبر الحسين. وشاعت المجالس أكثر في عهد الإمام الصادق الذي حث على إنشاء الشعر في الحسين. وقد تطور الشعر الحسيني في عصر الصادق وغدا له أسلوب خاص به هو النوح فلم يكن تلاوة وإلقاء للشعر فقط، بل دخلت فيه عناصر صوتية تزيد من تأثيره العاطفي والنفسي (قارن بنواحية شعر مظفر النواب). كما تفرغ رجال ونساء لإنشاء الشعر في رثاء الحسين وتخصصوا في النوح بهذا الشعر وتخصص آخرون في ما عرف برواية القَصص، ويبدو أن هؤلاء كانوا أسلاف خطباء المنبر الحسيني المحترفين. وكان القصّاص موجودون منذ عصر عثمان إذ كانوا يجلسون في المساجد بعد الصلاة ويحدثون الناس بقصص حروب الفتح والسيرة النبوية وسير الصحابة والمواعظ... إلخ. وقد كتب الشيخ هبة الدين الشهرستاني في الاتجاه نفسه ، مركزاً على ناحية الشعر والشعراء الذين كانوا أساس المأتم الحسيني في الزمن الأموي. ومع العباسيين ازداد وزن الشيعة داخل السلطة، ما سمح ببعض فترات هدوء ونمو شهدت تطور مجالس البكاء الشعرية .
ويبدو أن جماعة التوابين أدخلوا مظاهر أخرى تتعلق بتوجيه الكره والحقد على من قتلوا الحسين ومن أمروا بذلك أو سكتوا على ذلك ، وأدخلوا معها اللعن والشتم وغير ذلك . كما أنهم أدخلوا مضامين غير رثائية تعبر عن الندم والتوبة لم تكن موجودة أصلاً في مراسم العزاء التي كان يقوم بها أهل البيت في المدينة.
ويرى الشيخ شمس الدين أن قيام السلطات البويهية في بغداد والحمدانية في حلب والفاطمية في مصر قد ساعد على نشر الرقعة الجغرافية للمأتم الحسيني في مناخ من الحرية النسبية وتحت حماية السلطة في معظم الأحيان . غير أن هذا التطور ساهم بإحداث تغيرات كبيرة في نوعية محتوى المأتم، تمثلت في التوسع في تفاصيل الأحداث ومسبباتها منذ حادثة السقيفة وخلافة الرسول وحتى مصرع الحسين. وغدا الشعر الرثائي يحمل نزعة كلامية تاريخية بحسب وصف شمس الدين، "إذ يستخدم وقائع التاريخ بعقلية المتكلمين ليعطي تفسيراً لموضوعه الحسيني" . وتحول المأتم من حوار نثري شعري إلى قصة تروى وقصيدة تنشد، فإلى نص مكتوب (هو المقتل)، ثم انتهى في زمن البويهيين إلى مزيج من النثر والشعر يحكي قصة المأساة بروح تاريخية فضائلية. ومع الوقت كان العديد من الأئمة وعشرات العلويين الثائرين قد قتلوا على يد بني أمية وبني العباس، فكانت الأحزان عليهم تنضاف إلى الحزن الكبير على الحسين، ومعها تنضاف الأحداث والملابسات والمآسي التي حفلت بها حياة هؤلاء الأئمة المتأخرين والعلويين الثائرين. وشهد هذا الدور في نهايته نمو المأتم العلوي بوجه عام، فصار يتلى المقتل في ذكرى قتل الإمام علي (ليلة 19 رمضان)، ودخلت مصائب أهل البيت في مضمون المأتم الحسيني وانتشرت المؤلفات تروي سيرة حياة وموت كل إمام وكل علوي، ومنها كتب مقاتل الطالبيين (أبو الفرج الأصفهاني) والإرشاد للشيخ المفيد. ومنها قصيدة دعبل الخزاعي الشهيرة التي أنشدها للإمام علي الرضا، وذكر فيها علياً ومظلوميته، ثم الحزن على جعفر الطيار وابنه عبدالله وحمزة عم الرسول فالإمام علي والحسين، ففاطمة الزهراء... إلخ . وبحسب شمس الدين فإن البويهيين هم من أدخل اللطم على المأتم الحسيني، ثم تبعهم الصفويون.
الطقوس الفارسية الجديدة
غير أن التجديد الأخطر في عواقبه فهو إدخال البويهيين رسمياً إلى بغداد الاحتفالات الشعبية الكبرى. وبحسب ما يذكر ابن الأثير في تاريخه (ج8- ص181) فقد شهد عام 352هـ/965م احتفالاً جماهيرياً كبيراً يوم العاشر من محرم حيث أمر معز الدولة بإغلاق الحوانيت في بغداد وإقامة مجالس تعزية عامة في سرادق موشحة بقطع قماش ضخمة ونزول النساء إلى الشوارع مشحرات الوجوه نادبات ضاربات للخدود. أدى ذلك إلى استثارة موجة مضادة وعلى مدى سنتين 966 - 967 تمثلت بمظاهرات سُنية كبيرة واشتباكات طائفية متنقلة في بغداد. ثم انقطعت المظاهر بعد سقوط البويهيين ومجيء السلاجقة باستثناء ما شهدته بغداد عام 1009 من مواكب طوافة وقرع طبول يوم عاشوراء. ولم نعد نجد أي ذكر لهذه المظاهر حتى كان زمن الدولة الصفوية في إيران.
والمفيد ملاحظته هنا أن البويهيين كانوا من الزيدية حين كانوا حكام طبرستان، ولكن استلامهم للسلطة في بغداد حولهم من الزيدية إلى الاثني عشرية لسبب بسيط وهو أن الإمام عند الزيدية هو من يخرج بالسيف داعياً إلى نفسه أما الاثنا عشرية فليس لها إمام رسمي تدعو إليه. ولعلهم احتاجوا إلى مواكب العزاء المبالغ في مسرحتها لتأكيد انفصالهم عن الزيدية أولاً ولتكوين عصبية عراقية لهم ثانياً، لذلك بالغوا في تلوين التزامهم الجديد باختراع مراسيم لم تخطر في بال الفاطميين، ولا الحمدانيين، ولم يعهدها الزيديون بالطبع، وهو ما قامت بتطويره وتوسيعه الحركة الصفوية التي استلمت الحكم في إيران في مطلع القرن السادس عشر.
في حديثه عن التأثير المريع الذي تركته الدولة الصفوية على التشيع بعامة وعلى تراث المأتم الحسيني تحديداً، استخدم الشهيد الدكتور علي شريعتي عبارة ( التشيع الصفوي)، ولم يكن يقصد بها الإيرانيين أو الفرس، بل تأثير الدولة الصفوية (1501 - 1736م) في زمن سطوتها وسلطتها منذ استلام الشاه إسماعيل حيدر الصفوي (1478م - 1524م) الحكم عام 907هـ 1501م، وهو جمع بين السلطتين الدينية والدنيوية، وقام بتحويل إيران إلى دولة شيعية بالقهر والقوة والسلطان، وأحدث نقلة فى التشيع حين حولّه من عقائد وفقه وثقافة إلى فولكلور وتقاليد وأعراف وممارسات وثنية حرفته عن (التشيع العلوي) على حد تعبير علي شريعتي، أي عن مبادئ الإمام علي وحركته الثقافية الفكرية العقائدية الاجتماعية السياسية. ومن الذين شاركوا علي شريعتي نظرته نذكر من إيران الشهيد مرتضى مطهري صاحب كتاب "الملحمة الحسينية"، الذي قتلته فرقة من غلاة الشيعة الثوريين تسمي نفسها الفرقان، ومحمود طالقاني، ومحمد تقي القمي، ومحمد صالح المازندراني، وإبراهيم جناتي. ومن العرب نذكر محسن الأمين العاملي، وجعفر كاشف الغطاء، ومحمد حسين كاشف الغطاء، ومهدي الحيدري، ومحمد باقر الصدر، ومحمد الصدر، ومحمد حسين فضل الله، ومحمد مهدي شمس الدين، ومحمد جواد مغنية، وعلي نقي الحيدري، وهاشم معروف الحسني، وموسى الصدر، ومحمد رضا المظفر، ومحمد سعيد الحبوبي، وباحثون كثر منهم علي الوردي، وإبراهيم الحيدري، وجواد علي.
ويذكر شريعتي في كتابه "التشيع العلوي والتشيع الصفوي"" ، كيف قام الصفويون باختراع نسب فارسي شاهنشاهي للأئمة عبر أكذوبة زواج الحسين من ابنة آخر ملوك فارس الساسانيين وولادة الإمام زين العابدين من هذا الزواج. ويدحض شريعتي الأسطورة هذه بالوقائع التاريخية، ويقول إن الحركة الصفوية ورجال الدين المرتبطين بها عملوا كل ما من شأنه التوفيق بين القومية الإيرانية والدين الإسلامي، لتبدو الوطنية والقومية الإيرانية بوشاح ديني أخضر، وفي هذا الصدد أعلنوا بين عشية وضحاها أن الصفويين - أحفاد الشيخ صفيّ الدين- هم (سادةٌ) من حيث النسب، أي أحفاد للنبي محمد! وتحول المذهب الصوفي القزلباشي فجأة إلى مذهب شيعي اثني عشري، وتلبس الصفويون بلباس ولاية علي ونيابة الإمام (هذا ما ادعاه الشاه إسماعيل) والانتقام من أعداء أهل البيت. في ضوء ذلك يفسر شريعتي تركيز أجهزة الدعاية الصفوية على نقاط الإثارة والاختلاف والفصل المذهبي والاجتماعي والثقافي بين السُنة والشيعة. ويقول إن الحركة الصفوية حرصت على تعطيل أو تبديل الكثير من الشعائر والسنن والطقوس الدينية وإهمال العديد من المظاهر الإسلامية المشتركة بين المسلمين. ويضيف بأن مراسيم اللطم والزنجيل والتطبير وحمل الأقفال ليست فقط دخيلة على المذهب ومرفوضة من وجهة نظر إسلامية، بل هي تثير الشكوك حول منشئها ومصدر الترويج لها. ويؤكد شريعتي أن هذه المراسيم تجري بإرادة سياسية لا دينية، وهذا هو السبب في ازدهارها وانتشارها على الرغم من مخالفة العلماء لها، وقد بلغت هذه المراسيم من القوة والرسوخ بحيث إن كثيراً من علماء الحق لا يتجرأون على إعلان رفضهم لها، ويلجأون إلى التقية في هذا المجال!! ويستعرض شريعتي تاريخ نشوء المسرح الكربلائي وتمثيل الواقعة والاستعراضات الفولكلورية المواكبة لها في اليوم العاشر، فيتتبع مصدرها إلى وسط آسيا، وإلى ممارسات القبائل التركمانية ما قبل الإسلام، وإلى بعض التأثيرات المسيحية من القرون الوسطى كما يشير إلى الدور السوسيولوجي الذي مارسته في بناء العصبية الفارسية وشد لحمتها من خلال تحويل التشيع إلى طائفة/ سلطة.