بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
انتفاضة القدس أو الانتفاضة الفلسطينية بصورةٍ عامة، كانت بالنسبة للإسرائيليين وربما لغيرهم أيضاً في الداخل والإقليم والجوار، هاجساً يقلقهم، وكابوساً يلاحقهم، وقد كانوا يسابقون الزمن، ويتحايلون على الأحداث لئلا تقع أو تنفجر، لأنهم كانوا يعلمون تداعياتها، ويعرفون نتائجها، وانعكاساتها على استقرار كيانهم وأمنهم وعلاقاتهم الخارجية، وصورتهم الإعلامية، وترابطهم الداخلي، وأنشطتهم البينية التي يلزمها الأمن والهدوء والاستقرار وطمأنينة النفس وراحة البال، ولكنهم رغم خوفهم وتحسبهم، ما كانوا يحاولون تجنبها عملياً، ولا الابتعاد عن أسبابها والقضاء على عواملها جدياً، بل كانوا بممارساتهم العدوانية القاسية المتعمدة سبباً في تفجيرها في وقتها أو تبكيرها عن أوانها. انتفاضة القدس التي انفجرت داميةً، واتخذت السكين وسيلةً وسلاحاً وأداةً، بما فيها من رعبٍ وخوفٍ سيطر على المستوطنين والجنود معاً، وطافت وانتقلت إلى كل أرجاء فلسطين، قد ألقت بظلالها القاسية والمباشرة على الحياة الاقتصادية الإسرائيلية، وأثرت بشكلٍ أو بآخر على مختلف المرافق الخاصة والعامة، وكان لها آثارها السلبية الملموسة والمعدودة والمحسوبة، التي انعكست بصورة مباشرة على المؤسسات والمرافق والخدمات، وعلى المدخولات والنفقات، وقد أصابت بعض المرافق بالشلل الكلي، وأخرى تعطلت جزئياً، وكلاهما مع توالي الأيام يغرق وتتعمق مأساته أكثر، الأمر الذي سيجعل معافاة الاقتصاد الإسرائيلي صعبة أو متأخرة. فقد ذكرت الصحف الإسرائيلية أن الأيام العشرة الأولى من الانتفاضة قد تسببت في صدمة الأسواق المالية الإسرائيلية، وتركتها في حالة ذهول وتخبطٍ، وأدت إلى انهيار ملحوظ في أسهم الشركات الكبرى، وقد تستمر هذه التداعيات وتتفاقم في حال استمرار الأحداث، مما سيضر الحكومة ووزارة المالية الإسرائيلية إلى تخصيص ميزانياتٍ إضافية إلى جهاز الشرطة العام، وإلى قيادة الأركان ووزارة الدفاع، التي ستكون مضطرة لاستدعاء الاحتياط، بالإضافة إلى وزارة الداخلية والأمن الداخلي، وحالة الاستنفار القصوى التي تعيشها الأجهزة الأمنية، الأمر الذي سيرهق ميزانية الدولة، وسيرفع من حالة مديونتها الداخلية والخارجية، وحاجتها إلى المساعدات الدولية، لحقن ميزانيتها، وستكون هذه الميزانيات الإضافية على حساب فعالية وحيوية المرافق الاقتصادية الأخرى، حيث يتوقع أن يتراجع مستوى الإنتاج المحلي، بالإضافة إلى تراجع دخل الحكومة، وفي حال حصولها على مساعداتٍ أو قروض، فإنها ستكون مضطرة لتحويلها إلى جهاز الشرطة والجيش، ليتمكنا من مواجهة الأحداث المتصاعدة. ونقلت الإذاعة العبرية عن مسؤول كبير في وزارة المالية الإسرائيلية قوله إن "الانتفاضة أدت إلى زيادة تكلفة المصاريف الأمنية والعسكرية بشكلٍ كبيرٍ، سيما في ظل استدعاء الآلاف من الجنود للخدمة في القدس وأرجاء الضفة الغربية، إلى جانب الحاجة إلى شراء الكثير من العتاد والتجهيزات العسكرية والأمنية اللازمة للعمل العسكري والأمني والاستخباري". وقد سجلت دوائر الرصد الإسرائيلية انخفاضاً ملحوظاً في القطاع السياحي، حيث ألغيت مئات الرحلات، وألغيت آلاف الغرف الفندقية، خاصة تلك التي كانت مرتبطة بمدينة القدس وأماكنها الدينية، حيث لوحظ حالات إلغاء جماعية لرحلاتٍ وبرامج كانت معدة ومخطط لها قبل أشهر، ما أدى إلى إغلاق العديد من المكاتب السياحية وتعطيل الموظفين، وإلغاء التعاقدات الفنية والرياضية والثقافية، فضلاً عن توقف الخدمات المرافقة كالمطاعم والأماكن السياحية وشركات تأجير السيارات وغيرها. يستطيع أي مراقبٍ أو متابع أن يلاحظ أن الحركة في الشوارع الإسرائيلية قد خفت كثيراً، وأن العديد من المحلات التجارية قد أغلقت أبوابها، وتراجع الإقبال على الأسواق العامة، وقل رواد المقاهي ومرتادو دور السينما والمسرح وأماكن الترفيه الأخرى، وأن الحافلات الإسرائيلية العامة قد باتت خالية من الركاب إلا قليلاً، خاصةً بعد عملية حرق عشرات الحافلات العامة وهي متوقفة في مرائبها، وهي إشاراتٌ واضحة على حالة الركود والانكماش التي يعيشها الاقتصاد الإسرائيلي. لا تتوقف التداعيات السلبية لانتفاضة القدس على المرافق الاقتصادية المباشرة، بل امتدت آثارها لتطال قطاع التعليم، وخاصة التعليم الديني في مدينة القدس، حيث أغلقت عشرات المدارس، وغاب تلاميذها وطلابها عن مقاعد الدراسة، وبدأت بعض البلدات الإسرائيلية في تحديد ساعات الدراسة، ومتابعة حافلات نقل التلاميذ، في الوقت الذي اتخذت العائلات الإسرائيلية احتياطاتها الخاصة ومنعت أولادها من الذهاب إلى المدارس، خاصة تلك التي تتقاطع طرق الوصول إليها مع قرى وبلداتٍ فلسطينية.
وتري الخبيرة الاقتصادية الإسرائيلية إيليت نير أن الضرر الذي لحق بالأسواق الإسرائيلية نتيجة الانتفاضة، أكثر بكثير من تلك التي أصابها جراء الحرب الأخيرة على قطاع غزة، ففي الحرب على غزة كان المواطن الإسرائيلي يثق في الجيش لحمايته وصد الاعتداء عنه، ومهاجمة المقاومين في أماكنهم، أما عمليات الطعن العامة، والدهس والصدم في الشوارع والطرقات، فهي تتصف بالفردية والفجائية، وليس فيها تنظيمٌ ولا إعداد مسبقٌ، ومنفذها كل فلسطيني يرغب ويقرر، ولا يوجد ضدها ضربة أمنية حاسمة ومميتة، الأمر الذي من شأنه أن يجعل من كل مواطنٍ إسرائيلي هدفاً متوقعاً وضحية ممكنة، ويبدو في وجهة نظرها أن بقعة الزيت آخذةٌ في الاتساع والتمدد. لا أحد ينكر أن الاقتصاد الإسرائيلي مزدهر بالمقارنة مع دول المنطقة، ودول المركز الرأسمالي المتقدمة، وأنها تحقق نمواً اقتصادياً يصل إلى 5% سنوياً، ولكن الاقتصاد الإسرائيلي اقتصادٌ يوميٌ آنيٌ، يتأثر باللحظة، ويستجيب إلى المؤثرات والمعطيات الزمانية والمكانية، ولهذا فهو على الرغم من درجة النمو العالية نسبياً، فإنها قد تؤول فجأةٍ بطريقة الانكسار الحاد غير التدريجي إلى درجاتٍ دنيا، في حال استمرار الانتفاضة، وانعكاسها النفسي والمادي على المواطن الإسرائيلي. لا ينبغي أن نقلل من حجم وأثر الانعكاسات السلبية على بنية الاقتصاد الإسرائيلي نتيجة الانتفاضة المباركة، فأثرها يتجاوز الأرقام والإحصائيات، ومستوى النمو ودرجة الركود، إلى انعدام الثقة في الكيان ومستقبله، والإحساس فيه بالغربة والخوف، وفقدان الثقة في جيشه ومؤسساته الأمنية، وفرار المستثمر الأجنبي، وهروب رأس المال المحلي، ونزوع المواطنين إلى السكينة والهدوء، والكف عن البيع والشراء، والامتناع عن دفع الضرائب وأداء المستحقات، وغير ذلك مما تنتجه النفس المحطمة، والروح اليائسة، والأفق المسدود.