إن العامل الرئيس في وقوع حادثة كربلاء " المجزرة " هو استشراء حب الدنيا والفساد والفحشاء، بحيث سُلِبت الغيرة الدينية والشعور بالمسؤولية الإيمانية. فإننا عندما نؤكد على قضية الفساد والفحشاء، والجهاد والنهي عن المنكر وأمثال هذه الأمور، فلأن من أخطر نتائج هذه المفاهيم إذا سادت في المجتمع وانتشرت بين الناس ,واصبحت عادات تُمارس بلا رقيب وحسيب , هو تسببها في تخدير المجتمع , وبالتالي حَرْفِه عن مساره الانساني الذي ينبغي أن يكون عليه من أجل الارتقاء والتقدم .
لكل مجتمع دعائم وركائز ينبغي ان تتوفر كبُنى أساسية , على اساسها يُبنى المجتمع الصالح , وتتوفر من خلالها حاجيات الفرد الضرورية التي تساعده على ان يكون إنسانا سويّا معافى من النواقص التي تدفعه الى الخطأ , وتدفعه الى إرتكابات منحرفة , قد يكون مجبراً عليها في حال فُقِدت , وهذه الاساسيات البنيوية هي مسؤولية النظام العام , ومسؤولية السلطة الحاكمة , فعليها أن توّفر للناس ( المواطنون ) طُرُق المعرفة السليمة , كي يكون الفرد\ المواطن على معرفة واضحة لا لُبْسَ فيها بكل حقوقه وواجباته , وتؤمّن له فضاءاً من الحرية كي يمارس هذه الحقوق براحة وطمأنينة , وتكون هذه المعرفة التي يتسلّح بها الفرد \ المواطن , مقدمة أساسية لتأمين العدالة بكل وجوهها , العدالة التي لا محاباة فيها سواء في حقل القضاء، أم في حقل الاستحقاقات العامّة , أي العدل التام فيما يتعلَّق بعامة الناس , في توزيع الوظائف وتفويض المسؤوليات وتحمّلها .
إذا تأمّنتْ في أي مجتمع من المجتمعات , العدالة التامة , مع المعرفة الصحيحة التي لا لُبْس فيها , فمن الطبيعي أن تسود وتنتشر ثقافة المحبة والتسامح , والعاطفة الفيّاضة , لأنه ساعتئذٍ ستكون العلاقات الاجتماعية مبنيّة على أساس الاحترام والصدق وليس على اساس المصالح الضيقة الكاذبة التي من شانها أن تُفسد الود بين الناس عندما لا يكون هنالك مصلحة تدفعه لهكذا علاقات .
هذه الثقافة المتشكلة بسبب العدالة التامة والمعرفة الصحيحة والمحبة والتسامح , هي من أهم عوامل تصحيح العبودية الخالصة لله , وهي كفيلة بأن تجعل من المجتمع مجتمعا مؤمنا إيمانا صحيحا , لا يضطر الفرد أن يمارس دِينا وطقوساً يرضي من خلالها زعيما هنا أو زعيما هناك , وهذا هو عين النفاق الذي هو إظهار خلاف الباطن , فلذلك خرج الامام الحسين عليه السلام رافعا شعار الاصلاح من أجل إرساء هذه الدعائم الاساسية التي فُقدت نهائيا من المجتمع , ومما قاله عليه السلام مخاطبا الناس في مسيره الى كربلاء : " إن هذه الدنيا قد تغيّرت وتنكرت , وأدبر معروفها , فلم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء , وخسيس عيشٍ كالمرعى الوبيل , ألا ترون أن الحق لا يُعمل به , وأن الباطل لا يُتناها عنه , ليرغب المؤمن في لقاء الله مُحِقاً ,.... فإني لا أرى الموت إلا حياة , ولا الحياة مع الظالمين إلا برما ..... "
خرج عليه السلام رافضا الواقع الذي فُقدت فيه كل القيم والدعائم الاساسية لبناء مجتمع فاضل , وساد مكانها الانحراف الكامل و الفساد على مستوى السلطة وعلى مستوى الفرد , ويدل على هذا العدد القليل الذي بقي مع الامام عليه السلام , كم تغيّرت الاخلاقيات والقيم حتى وقف الامام عليه السلام في مجتمعه وبين المسلمين يناديهم بالحق ولا سامع له , ينادي بالحرية والعدالة والمساواة والعلم والمعرفة والحب والتسامح وعبادة الله الواحد , والناس في وادٍ آخر لا تريد إلا رضى السلطة كم يُشبه ذاك الزمن بتفاصيله كلها , زماننا الذي يُنادى فيه للعدل ولا مجيب , وللإصلاح ولا مَنْ يسمع , كأني بالحسين عليه السلام الآن ينادي ويُجاب إننا لا نفقه ما تقول ....