لا يُحسد سعد الحريري على وضعه، لا سياسياً ولا شعبياً، ولكن الأخطر في بيته الداخلي المترامي الأطراف والمتعدد الرؤوس ومراكز النفوذ.. والحسابات.
ولا يُحسد الحريري على علاقته المقلقة والملتبسة بالقيادة السعودية الجديدة، ومن خلالها على أوضاعه المادية التي جعلت مؤسساته وجمهوره في حالة انكشاف يصعب تغطيتها بمساحيق الوعود ومعسول الكلام.
يأتي طرح هذه الإشكالية الحريرية، غداة الخطاب السياسي الناري الذي أطلقه وزير الداخلية نهاد المشنوق يوم الجمعة الماضي عبر تلويحه بالخروج من الحكومة والحوار مع «حزب الله»، وما استوجبه من رد عنيف من السيد حسن نصرالله بدعوة قيادة الحزب الى «إعادة النظر» بالموقف من الحوار مع «المستقبل»، خصوصا أنه سبق للحزب أن ناقش هذا الخيار داخلياً أكثر من مرة في ضوء التجربة التي ستطوي سنتها الأولى في نهاية كانون الأول المقبل، لولا أن الرئيس نبيه بري كان يتدخل ويتمنى على قيادة الحزب الاستمرار في الحوار.. الذي لن يتوقف هذه المرة على الأرجح، حسب أوساط واسعة الاطلاع على موقف بري والحريري و «حزب الله» معاً.
هنا ينبري السؤال الذي طرح فور انتهاء خطاب المشنوق: هل كان الحريري في جو موقفه، وهل هو موافق عليه، وهل يندرج في إطار مقاربة جديدة لـ «المستقبل» للوضع الداخلي والعلاقات الداخلية، أم أنه تعبير جديد عن واقع التفكك والتشتت في «التيار الأزرق»؟
الأمثلة أكثر من أن تُحصى وتُعد عن إرباك «المستقبل»، ليس في الأمس القريب أو البعيد، بل في يومنا هذا. من قضية الترقيات العسكرية والتفاهمات التي أُبرمت وتم توقيعها وتم إجهاضها من بعض «صقور المستقبل» في المرة الأولى، ومن الرئيس ميشال سليمان في المرة الثانية، وهذا الأمر يدل في الحالتين، على عدم «مونة» الحريري على بعض رموز تياره، وعلى افتقاده التأثير والحضور السياسي الذي يجعل رئيساً سابقاً للجمهورية يعارض أمراً أبرمه مدير مكتبه، أي نادر الحريري!
ولعل نموذج ملف النفايات المفتوح على مصراعيه يدلل أكثر من غيره على واقع الإرباك والتناقضات، بحيث صار رئيس بلدية، سواء في إقليم الخروب أو صيدا أو البقاع الأوسط أو عكار، قادراً على ليّ ذراع ليس أحمد الحريري بل سعد الحريري نفسه الذي اضطر للتدخل أكثر من مرة مع هذا وذاك لتبديد اعتراضاتهم من دون أن يصل هذا الملف الى بر الأمان.

يطرح هذا الأمر إشكالية أكبر، فعندما يبلغ التفلت هذا المستوى والوضوح الى حد الفجور، يصبح السؤال متصلاً بمرجعية الساحة الإسلامية السنية في لبنان ومن المسؤول عن هذا التفلت وهذه «الدكاكين» التي تفتح هنا وهناك ومن يستطيع أن يتسلل من خرم هذا الواقع المأزوم من أجل قضم حصص وكوادر.. وجمهور، وألا يطرح ذلك إشكالية البديل السني المتطرف وضمور قوى الاعتدال السني في لبنان ربطاً بالضمور العام في المنطقة كلها، وخصوصا في سوريا والعراق واليمن وكل دول الخليج؟
لقد فجّر اغتيال رفيق الحريري في شباط 2005، كل الغضب السنّي المتراكم، فغادر هذا الجمهور تحفظاته وجاهر بكل هواجسه وكراهياته المكتسبة والموروثة، وفتح دفاتر الحسابات المؤجلة، خصوصاً مع سوريا وحلفائها اللبنانيين وتحديداً «حزب الله».
وناهيك عن «حرب تموز» وما رسخته في وجدان وعقل فئة لبنانية شعرت في لحظة استثنائية بحياد مكوّن سياسي داخلي حيال العدو، فإن كل الواقع الممتد من أيار 2008 حتى يومنا هذا، وخصوصاً بعد اندلاع الأزمة السورية، يدل على افتقاد «تيار المستقبل» استراتيجية سياسية مردها الفراغ الذي يعاني منه الظهير الإقليمي، أي السعودية وباقي دول الخليج.
واذا كان وجود الحريري شخصياً في بيروت، في مرحلة سياسية ما، قد ساعد في عدم تظهير هذا الواقع السلبي، فإن غيابه اليوم، يطرح السؤال الآتي: هل المعادلة التي بنى «المستقبل» مجده على أساسها منذ العام 2005 ما تزال ثابتة ومستمرة؟
أولا، لم تعد «شرعية الدم»، أي دم الرئيس الشهيد رفيق الحريري، كافية لشد عصب الجمهور. عشر سنوات من الاستثمار كانت كافية لطرح الجمهور الحريري سؤالا: الى أين يمكن أن تأخذنا هذه «الشرعية» التي تتحرك وفق إيقاع سياسي بلغ ذروته يوم وقف الحريري نفسه أمام المحكمة في لاهاي وقرر «مسامحة القتلة»، وقبلها عندما قرر أن ينام في أحضان القيادة السورية في زمن «السين سين»!
ثانيا، للخطاب المذهبي أن ينتج شعبية، وبمقدور أي «مستقبلي» أن يطلق خطاباً حاداً، وأن يكتشف من دون كبير عناء المردود الشعبي.. والأمثلة كثيرة، لكن هل يدرك هؤلاء أن الاستثمار السياسي الأساسي الذي جسده رفيق الحريري إقليمياً وليس لبنانياً فقط، هو خطاب الاعتدال، كنموذج مضاد وقابل للتعميم في مواجهة نموذج أسامة بن لادن وكل المسميات التي كانت تشبهه سعودياً وعربياً في مرحلة معينة؟ وهل هناك من يشكك في أنه في حال اعتماد النظام الانتخابي النسبي في لبنان، سيكون للمرة الأولى لبعض التنظيمات الأصولية من يمثلها في الندوة النيابية على حساب «تيار المستقبل» نفسه؟
ثالثا، لطالما شكلت السعودية المرجعية الراعية للحريرية السياسية في لبنان، لكن هذه المرجعية نفسها تقدم من خلال سلوكيات متعددة إشارات واضحة الى انتهاء زمن «الحصرية». لا يعني ذلك أن السعوديين مستعدون للتخلي عن سعد الحريري لكنهم باتوا أكثر انفتاحاً من أي وقت مضى على باقي المكونات السنية، والأهم على باقي المكونات اللبنانية من دون أن يكون الحريري نفسه هو الممر الإلزامي لذلك.
رابعا، هل نجح سعد الحريري منذ نحو سنة حتى الآن في بناء علاقة طبيعية الى حد التطبيع مع القيادة السعودية الجديدة، أم أنه أخفق في ذلك، ولماذا احترم السعوديون الشكل، فقدموا كلا من سمير جعجع أولا ووليد جنبلاط ثانيا، بوصفهما زعيمين لبنانيين، كل في دائرته (المسيحية والدرزية)، ولم يحرصوا على فعل ذلك مع الحريري نفسه وهو يحتاجه أكثر منهما لتجديد «أوراق اعتماده» عند الحكم الجديد وخصوصا عند «المحمّدين» بن نايف وبن سلمان؟
خامسا، لم يعد الموضوع المالي خافيا على أحد، سواء في السعودية نفسها (نموذج المصاعب التي تواجهها «سعودي أوجيه») أو في لبنان، فهل يكفي القول إن السعودية تعطي لحربها في اليمن أولوية حتى يلتزم العاملون بالمؤسسات بالعض على جرح الرواتب والتقديمات المتراكمة منذ ستة أشهر حتى الآن (باستثناء راتب شهر واحد أعطي في نهاية أيلول للعاملين في «تلفزيون المستقبل»)؟
ومن يعطي تفسيراً لـ «الحصار المالي» القائم قبل «حرب اليمن»، وهل صحيح أن الحريري عجز عن الالتزام بما طالبه السعوديون به من «إصلاحات» في مؤسساته لإنهاء واقع الفساد المستشري على مستوى كبار موظفي «سعودي أوجيه» في السعودية أو في لبنان، من خلال استمرار مزاريب الهدر التي لا تجد تفسيراً مقنعاً لدى «المستقبليين» أنفسهم؟
سادسا، ان من يراجع أدبيات «المستقبل» منذ عشر سنوات، يجد أن هذا «التيار» لطالما راهن على عناصر خارجية متصلة بالحسابات السعودية أولا والأميركية ثانيا، واذا كان المراقب للأمور منصفاً، بمقدوره القول إنها كلها مدعاة لطرح الأسئلة والتأمل في صوابيتها، فكيف هي الحال مع التفاهم النووي الذي لطالما ردد المقرّبون من زعيم «المستقبل» أنه لن يبصر النور، وكيف هي الحال مع النظام السوري الذي استطاع أن يقاتل خمس سنوات، فلا هو سقط ولا «المنطقة الآمنة» في شمال سوريا تحققت ولا «العاصفة الأميركية» أتت على ظهر «الكيميائي»، بل جاء «السوخوي» بعد سنتين وجعل المنطقة كلها على فوهة بركان الى حد أن الكثير من الخيارات قد سقطت وصار بالإمكان التحدث عن نظام إقليمي ودولي جديد؟
اذا كانت الإدارة الداخلية السعودية مأزومة ومن خلالها الإدارة الخارجية، هل يمكن افتراض صورة ثانية لسعد الحريري، مختلفة عن تلك التي نشهدها حاليا؟