يثير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الدهشة على جرأته في خوض حرب خارجية لا يمكن التكهن بمدتها ولا بنتائجها ولا بتداعياتها. والأغرب في المغامرة العسكرية الروسية في سوريا أنها جاءت في الوقت الذي ترزح فيه روسيا تحت وطأة عقوبات اقتصادية ومالية غربية، تزامنت مع فشل الحكومة في معالجة أزماتها الاقتصادية المتراكمة، وكأن بوتين الذي يتقن الألمانية لم يقرأ ما كتبه المؤرخ العسكري الألماني كارل فان كلاوزفيتز في كتابه «عن الحرب» بأن الجيوش تزحف على بطونها وأن الحروب هي امتداد للسياسات ولكن بوسائل أخرى، لا أنها في نظر بوتين امتداد للأزمات بوسائل متعددة! مكنت الحرب السورية بوتين من تجميد الصراع الأوكراني، الذي حول روسيا ذات الطموحات الإمبراطورية إلى دولة إقليمية تخوض مواجهة حدودية مع جارتها، بينما سمحت له الأزمة السورية بالقفز ببلاده إلى الساحة الدولية، حيث بات الكرملين في موقع الهجوم بعدما أمضى ربع قرن في موقع الدفاع، ففي سوريا يجتمع معظم الدول الكبرى في رقعة صراع إقليمي بأبعاد دولية، مما دفع بوتين إلى الاستعجال في خوضها دون الاكتراث لكلفتها.
سمحت الحرب السورية بإجراء تجارب حيّة على آخر ما توصلت إليه الصناعة العسكرية الروسية، التي تعرضت لفضيحة بسقوط 4 صواريخ أطلقت في الأراضي الإيرانية من بحر قزوين، ما وضع القيادة الروسية أمام تفسيرين أحلاهما مُر، فإما أن تقر بفشل عملية الإطلاق، وهو اعتراف ضمني بضعف التكنولوجيا الروسية، وإما أن تتهم الولايات المتحدة بالتشويش على مسار الصواريخ، وهو اعتراف صريح بنجاح المظلة الصاروخية الأميركية وراداراتها في محاصرة روسيا، بينما بلغت تكلفة استعراض العضلات بإطلاق 24 صاروخا عابرا للقارات «كاليبر» 20 مليون دولار، وهي أعباء إضافية على الخزينة التي اضطرت أصلا إلى إعادة ما يقرب من 2.3 مليار دولار إلى ميزانية الدفاع، بعد أن كانت قد اقتطعتها في بداية العام، مما يزيد احتمال زيادة 3 في المائة في عجز الميزانية العامة لسنة 2016. أما ميدانيا فقد أثبت صاروخ «التاو» الأميركي ضعف مستوى التصفيح الجديد للدبابات الروسية، حيث استطاعت المعارضة السورية تدمير العشرات منها خلال الأيام الأخيرة، بينما بات التكهن صعبا بمصير الطائرات الروسية الحديثة من طراز سوخوي وميغ في حال قررت الدول الداعمة للمعارضة تزويدها بصواريخ أرض - جو، فليس خفيا على أحد أن موسكو لجأت إلى تل أبيب من أجل تطوير أسطولها الجوي العسكري بتقنيات حديثة بعقد بلغت قيمته 1.4 مليار دولار، كما قامت بشراء بارجتين فرنسيتين، ما عرف بصفقة «ميسترال» التي توقفت بسبب العقوبات الأوكرانية، إضافة إلى عقود مع ألمانيا من أجل تحديث القواعد العسكرية الروسية وتطوير غرف التحكم العسكري.
يبلغ حجم الديون الخارجية الروسية 600 مليار دولار، بينما تشير الإحصاءات إلى أن النمو العام لن يتجاوز 0.2 في المائة للعام الحالي، كما كشفت هيئة الإحصاء الرسمية أن معدل الفقر لهذا العام بلغ 15 في المائة، بينما تتسبب العقوبات الاقتصادية الأوروبية في خسارة روسيا 37 مليارا سنويا، أما خسائر الميزانية السنوية جراء انخفاض أسعار الخام إلى ما دون 60 دولارا للبرميل فوصلت إلى قرابة 110 مليارات دولار، بينما يتوقع أغلب مؤشرات أسواق العملات انخفاضا كبيرا للعملة الروسية في الأشهر المقبلة.
منذ احتلال القرم حتى غزو سوريا، يعيش الوعي الجماعي الروسي ثورة الطموحات الإمبراطورية، فقد نجح بوتين في الهروب بروسيا من واقعها الداخلي الصعب إلى الفضاء الجيو - سياسي، حيث رغبة الثأر من التفرد الأميركي لاستعادة الهيبة، وإعادة التكوين العقائدي للأمة الروسية «كنيسة وشعبا وقيصرا»، في تطبيق شبه حرفي لما قاله أحد منظري الحقبة السوفياتية ميخائيل سوسلوف من أن «روسيا قوية ما دام هناك قيصر وفقر»، هذا التحصين الداخلي منح بوتين القدرة المؤقتة على القيام بمغامرة انفرد بتحديد موعد انطلاقها، ولكن من المستحيل أن يحدد موعد نهايتها، فحسابات البيدر السوري تختلف عن حسابات الحقل الروسي.