غرَقُ أفراد عائلة آل صفوان السبعة، فيما لا يزال شخصان منها مفقودَين، شكّلَ صدمة لفتت أعناق اللبنانيين إلى مأساة كانت موجودة منذ عامين وتعاظمَت أخيراً، لكنّ الاهتمام الرسمي والإعلامي بها كان غائباً لمصلحة أحداث سياسية تجترّ نفسها وتؤبّد الشلل العام في البلد.
حذّرت “الجمهورية” قبل نحو شهرين من ظاهرة يتمّ إهمالها، وفحواها أنّه يوجد داخل تسونامي هجرة النازحين السوريين غير الشرعية الى اوروبا هجرة موازية مضمرة ولكنّها تتعاظم، وقوامُها وجود مافيات تركية لبنانية مشتركة تنظّم تسفيراً غيرَ شرعيّ لعائلات لبنانية ولاجئين فلسطينيين من مخيّمات لبنان إلى اوروبا، وذلك بالطريقة نفسِها التي يتمّ فيها تسفير النازحين السوريين، ما يؤسّس لحدوث مآسي غرَق للبنانيين ولتعاظمِ أنشطة مافيات التسفير غير الشرعي في لبنان.
المصدر " الجمهورية "
“الجمهورية” تعيد فتح هذا الملف، وهذه المرّة انطلاقاً من معلومات جديدة توافرت عن أبرز مافيات التسفير غير الشرعي الناشطة في لبنان، إضافةً إلى معلومات عن طرائق عملها لإقناع ضحاياها بمغامرة ركوب البحر والانتقال من ميناء إلى آخر بقوارب مطاطية في الغالب وبأسلوب غير شرعي محفوف بالمخاطر، وذلك بهدف الهروب من أزماتهم في بلدهم والدخول الى اوروبا.
ماذا في التفاصيل ؟
يعمل العديد من شبكات المافيا على خط التسفير غير الشرعي في لبنان، وأبرزها مافيا تقودها اللبنانية المجنّسة من أصل سوري “ليال. ي” وهي في العقد الثاني من عمرها. وتنشط في هذا المجال منذ نحو عامين تقريباً، واللافت أنّ أوّل عملية تسفير غير شرعي نفّذتها من تركيا الى اوروبا، استخدمت فيها شقيقها (هشام.ي) الذي رغب حينها في ترك لبنان بأيّ ثمن للعيش في المانيا.
تتنقّل “ليال.ي” باستمرار بين تركيا ولبنان. وفيما تفيد معلومات أنّها شريكة لشخص تركي يرأس مافيا في إزمير، تقول معلومات أخرى إنّها ليست سوى وسيط تعمل لمصلحته، بحيث تتقاضى عمولة عن كلّ شخص لبناني يرغب في السفر غير الشرعي عن طريق المافيا التركية، إلى تركيا.
وبموجب مهمّة ليال مع المافيا في تركيا، فإنّ دورَها يتمثل بالاتّفاق مع لبنانيين يريدون السفر الى اوروبا بشكل غير شرعي، حيث تعمَد الى تسفيرهم بشكل قانوني من مطار بيروت الى تركيا. وهذه مهمّة تُعتبر سهلة نظراً إلى أنّ اللبناني لا يحتاج إلى فيزا للسفر إلى تركيا، كما أنّ سعر بطاقة السفر لا يتعدّى 250 دولاراً.
وفي هذه المرحلة من نقلِ المسافر اللبناني من مطار بيروت الى تركيا، تتقاضى ليال عمولة خمسمائة دولار عن كلّ مسافر في مقابل وعدِه بإيصاله الى اليونان. وعند وصول المسافرين الى ساحة بسمري في إزمير حيث تستلمهم هناك المافيا التركية من ليال، تأخذ الأخيرة جوازات سفرهم وتعيدها إلى أهلهم في لبنان، وتتقاضى عن هذه العملية 100 دولار عن كلّ جواز.
تجري هذه العملية كجزء من تنفيذ خطة إدخال اللبنانيين إلى اليونان من دون أن تكون بحوزتهم أيّ وثائق، والهدف من ذلك إظهارهم أنّهم نازحون سوريون هاربون من أتون الحرب في بلدهم.
تستغرق عملية نقل المسافرين من ساحة بسمري في مدينة إزمير حتى مينائها نحو نصف ساعة بواسطة حافلة نقل. ومن هناك يُنقلون بواسطة قوارب سريعة أو مطاطية إلى إحدى الجزر اليونانية وأبرزُها جزيرة كوس أو جزيرة أخرى من الجزر المأهولة (هناك 277 جزيرة مأهولة من أصل 2000 جزيرة)، ومن هناك تقلّ باخرة المسافرين إلى أثينا مقابل 50 يورو عن الشخص. وتتقاضى المافيا التركية عن نقل كلّ مسافر من إزمير الى أثينا 2000 دولار.
في أثينا يتجمّع المسافرون غالباً في ساحة يَصطلح المسافرون غير الشرعيين على تسميتها ساحة امونيا، حيث تقلّهم حافلات تتقاضى 10 يورو عن الشخص الواحد إلى نقطة محدّدة على حدود مقدونيا.
ثمّ يتجاوز المسافرون نحو خمسين متراً سيراً ليصبحوا على حدود صربيا حيث يفترشون ساحةً كبيرة لنحو أربع ساعات، وذلك بإشراف البوليس الصربي، ومنها يقصدون النمسا بواسطة القطار، وذلك إمّا عن طريق صربيا أو عن طريق أوكرانيا. ومع بلوغهم النمسا تبدأ رحلة بداية حلمِهم بدخول أوروبا، حيث يختارون الدولة التي يريدون اللجوءَ إليها، وغالبا ما تكون ألمانيا.
يلاحَظ أنّه طوال هذه الرحلة من الجزر اليونانية حتى بلوغ النمسا، يتمتّع المسافرون بغضّ طرف أجهزة أمن الدوَل التي يمرّون بها عنهم، والسبب هو إدراكهم بأنّهم يمرّون في بلدانهم كـ”ترانزيت”، وبالتالي فإنّ مشكلة لجوئهم ستتفاعل في دوَل أخرى.
المافيا الثانية
ألمافيا اللبنانية التركية الثانية التي تنشط على خط تسفير اللبنانيين من تركيا الى اليونان، وتحديداً إلى إحدى أكبر الجزر اليونانية، يقودها شخصان، لبناني وتركي، وهي تُحدّد أنطاكيا بدلاً من إزمير كنقطة تجمّع للبنانيين القادمين من مطار بيروت.
ومن إحدى موانئ تلك المنطقة تقلّهم بواسطة قوارب سريعة لنحو سبع ساعات إلى الجزيرة اليونانية. ومن هناك عبر سكك المافيا الأولى نفسها إلى النمسا فأوروبا.. وتُعتبر سكة المافيا الثانية أكثرَ أماناً، ولكنّ المقابل الذي تتقاضاه مضاعَف عمّا تتقاضاه المافيا الاولى.
ويسجّل في هذا الإطار ملاحظات عدّة:
أوّلاً: إنّ المقابل المالي المرتفع الذي تحصل عليه المافيات لتسفير اللبنانيين الى اوروبا، جعلَ بعض العائلات يفضّل بدايةً الاكتفاءَ بإرسال الأم أو الأب مع أحد أفراد الأسرة الى اوروبا، ثمّ تستفيد العائلة لاحقاً من قانون لمِّ الشملِ في اوروبا لإحضار بقيّة أفراد العائلة بطرُق قانونية.
ثانياً – يلاحَظ أنّ قسماً كبيراً من العائلات التي تقيم اليوم في اوروبا بعدما سافرت بواسطة المافيات، ومعظمها عائلات فقيرة وتنتمي لبيئات محافظة، تواجه مشاكل انحلال عائلي في المجتمع الجديد، نتيجة فقدان الأب سلطة توجيه العائلة. وتبرز بينهم مشاكل من نوع أنّ الأب يريد العودة إلى لبنان، فيما الأولاد والزوجة يفضّلون البقاء.
ثالثاً – يلاحَظ تعاظم تفشّي عدوى السفر بين العائلات اللبنانية والفلسطينية اللاجئة في لبنان عبر المافيات اللبنانية التركية إلى أوروبا إمّا عبر إزمير أو عبر أنطاكيا. وقبل نحو ثلاثة أسابيع شهدت منطقة لبنانية تقع على الساحل الجنوبي هجرة عائلةٍ من آل “د”، وهي مؤلّفة من زوج وامرأته وولديه.
وخلال إبحار مركبهم المطاطي من إزمير الى إحدى الجزر اليونانية تعرّضَ للغرق، ولكنّ قارب صيد تركي أنقذ مَن كان على متنه. واللافت أنّ عائلة “د” التي أعيدَت إلى إزمير لا تزال تصرّ على تكرار المحاولة في اتّجاه اليونان وترفض العودة إلى لبنان.
رابعاً – نسبةٌ لافتة من بين اللبنانيين الذين وصَلوا أوروبا عبر مافيات التسفير غير الشرعية، خصوصاً من منطقتَي خلدة والناعمة والشمال، كانوا ينتمون لجماعات إسلامية متشدّدة. وثمّة تفسيران لذلك، أوّلهما يقول إنّهم قرّروا الهروب من أيّ مساءلة قانونية لاحقاً والبدء بحياة جديدة، والثاني يربط بين سفرهم إلى هناك ووجود شخص لبناني (خ. ز) يقيم في دولة أوروبية ويشغل مسؤولية كبيرة في حزب إسلامي كبير.