تقدّم المغنية نايا فناً لا يستحقّ التداول على الألسن. نالت لقب "رقص النجوم" ثم غابت، وعادت منذ مدّة إلى الضوء عبر التعرّي على "انستغرام". جديدها كليب "أنا بكيفي" الآتي إلى الجمهور لا في كونه عملاً فنياً ذوّاقاً ذا قيمة، بل لِما تردّد عن إساءته للمسيحية وامتلائه بالمشهدية الدموية للفت الأنظار، كأنّه لا يكفي المتلقي جثثية الحال التي هو فيها.
تبدو نايا في الكليب على أهبّة الاستعداد للقيام بأيّ شيء من أجل بناء شهرة. واضحٌ أنّ في البال هَمّ تقليد فنانات الغرب والتمثّل بقدرتهنّ على المواءمة ما بين العمل الفنّي ومفهوم الحرية. قدّم إليها مخرجٌ يدعى ميشال تقلا فكرة طافحة بالعنف الدموي، مدّعياً أنّ في الأمر أبعاداً فنية. لم يخرج الكليب من دائرة نايا عبر "يوتيوب"، وما كان ليثير ضوضاء من حوله ويحقّق ما يدعى "نسبة مشاهدة مرتفعة" إلا لأنّ الاستفزاز حقّق مراده ووقع المتلقي في "الطُعم"، فاعتبره المجلس الكاثوليكي للإعلام برئاسة الأب عبده أبو كسم "إساءة إلى المسيحية" عبر رسم علامة الصليب باليد عينها التي توضَع مباشرة على العضو التناسلي. كنا لنخوض معركة حريات في وجه كلّ سلطة دينية تتناول العمل الفني بعين الرقيب الحريص على "الأخلاق"، لكنّ الكليب يلامس الابتذال ولا يستحق التحوُّل قضية. تشاء مؤدّيته لو ترمم شهرة لا تنفكّ تتصدّع، فتجد أنّ "الاستفزاز" هو الحلّ. ليس القصد الرضوخ لقرارات السلطات الدينية في القبول والمنع والقصّ والحذف، فالحريات مقدّسة. وإنما في الكليب ما يكفي من الخواء الحائل دون الاستماتة للدفاع عنه.
"الكاثوليكي للإعلام": إنه العهر!
نرفع الهاتف للحديث إلى الأب عبده أبو كسم، رئيس المركز الكاثوليكي للإعلام، ناقلين إليه انقسام الرأي حول الكليب، واعتبار البعض (رغم شبه الإجماع على مواقع التواصل بأنّ المغنية تزحف حول الشهرة) أنّه مسيء للديانة المسيحية. يؤكد أبو كسم: "في عينينا نظر، ورأينا إهانة كبيرة. الكليب واضح. الإشارات واضحة". نسأله عن جدوى الرقابة اليوم في زمن التواصل الاجتماعي وحرية الانترنت، فيرفض اعتبار ما يقوم به المجلس رقابة، بل "نوع من المطالبة بعدم التعرّض للمقدّسات والمسائل الدينية. لسنا نمارس أيّ دور رقابيّ، ولو فعلنا ذلك لما وصلت الأمور إلى هذا الحدّ". ماذا جرى إذاً؟ يجيب بأنه التقى المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابرهيم اليوم ورفع إليه امتعاض المجلس من الإساءة داخل الكليب وسلّمه كتاباً بعدم السماح للأمن العام بعرضه عبر الشاشات، مشدداً على أنه سيتابع الأمر إن لزم مع القضاء ليقرّر ما ينبغي فعله. هنا نسأله: أليس في ذلك مبالغة، أيستحقّ الكليب كلّ هذه الإجراءات؟ يرفض احتمال المبالغة ويجيب بأنّ نبي الإسلام محمد أُهين في الدانمارك، "فأتى مَن كسّر في بيروت. نحن لن نكسّر ، بل ادّعينا على الإهانة باسم الكنيسة. الشعب المسيحي يطالبنا بالتحرّك، والاتصالات انهالت علينا مطالبةً بالدفاع عن رموزنا". ننقل إليه رأياً يعتبر المَشاهد الواردة فناً. يرفض ويقول: "لا يتذرّعن أحدٌ بالفنّ. إنّه العهر".
الأمن العام: الحذف قد يحلّ الأزمة
لم يصل الكليب إلى الأمن العام بعد. يخبرنا مصدر يفضّل عدم ذِكر اسمه بأنّ مصيره رهن المطالبة بعرضه عبر التلفزيونات المحلية، "أما عبر الانترنت أو الفضائيات فلا سُلطة لنا عليه". نسأله ماذا سيجري في حال طالبت إحدى القنوات بعرضه، فيؤكد أنّ لا علم للأمن العام بعد بما قد يجري والجهاز ينتظر، "وفي حال وجدنا إساءة فقد يُصار إلى حذف المقطع المسيء لحلّ الأزمة". مصدر آخر في المؤسسة عينها يشرح دور الأمن العام في التصدّي لِما يعتبر "إساءة للأخلاق والآداب العامة وأيضاً ما يشكّل نعرات طائفية": "لم يصلنا بعد أيّ كليب لنايا. على الفنان الحصول على ترخيص لعرض الكليب عبر القنوات الأرضية، وإن عَرَضه من دون ترخيص، فستقع المخالفة وعندها نرفع كتاباً إلى وزير الداخلية ويتحرّك القضاء. النيابة العامة تملك التصرّف إزاء المخالفات. نحن نقوّم العمل ونرى إن كان صالحاً للعرض، وفي حال الإساءة لأيّ جهة أو ديانة أو مذهب أو ما يعدّ مساً بهيبة الدولة والذوق العام، نُبلِغ صاحبه بضرورة التعديل، وإن رفض فالمسألة تُحال على القضاء".
العقوبات وفق المادتين 317 و474
يفضّل المحامي جهاد عبدالله مشاهدة الكليب قبل الحديث عنه. نرسله إليه عبر البريد، فيشرح ما يمليه القانون في حالات كهذه: "يرفض الدستور اللبناني تحقير الأديان وازدراءها والتعرّض للرموز، والقانون يكرّس هذا الرفض. لمجرّد ظهور الفعل إلى العلن، وهو في حال كليب نايا يستوجب ذلك، فمعناه أنّ الجرم حاصل. من الواضح إتيان المغنية على رسم الصليب في شكل لا يقبل الشكّ ولا يدخل ضمن إطار الرقص أو الحركة الرياضية. لا أجد مبرراً لرسم الصليب ثم إنزال اليد مباشرة إلى العضو التناسلي. قانونياً، مَن يمسّ أو يحقّر أو يزدري أو يهين الشعائر الدينية يُعاقَب. تنصّ المادة 317 من قانون العقوبات على السجن من سنة إلى ثلاث سنوات في حقّ كلّ مَن يتعرّض لمسّ الرموز الدينية، فيما المادة 474 تنصّ على السجن من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات في حال ازدراء الأديان. ظهور الفعل إلى العلن يُثبت حصوله وهذا ما جرى في حال نايا".
جمعية "مارش": القوانين غامضة وفضفاضة
لجمعية "مارش" رأي آخر يرفض منح السلطات الحزبية والسياسية والدينية حقّ التدخل في الأعمال الفنية أياً تكن قيمتها. تجد منسّقة الجمعية ليا بارودي "غموضاً في قانون الرقابة يسمح للأمن العام بالرفض والمنع وفق مشيئته". تقول: "فلنراقب مصطلحات مثل تهديد السلم الأهلي، الأخلاق، النعرات الطائفية، ازدراء الأديان، كلّها كلمات فضفاضة تتيح للرقيب التصرّف من دون معيار. يفوّض أبو كسم- ومعه الأجهزة الدينية- نفسه مؤهلاً للبتّ في مصير أعمال فنية من دون أن يخوّله القانون هذه الصلاحية. الأمن العام ليس وحده الجهاز الرقابي في لبنان، والمشكلة في القوانين التي تسمح له بالتدخل بما يشاء، فيما هو بدوره يسمح للسلطات الدينية بالتدخّل وينصاع لها. الأمر بغاية البساطة: ما عادت الرقابة ممكنة في عصر الانترنت، وعوض منح الكليب أضعاف حجمه، كان من الأفضل الامتناع عن مشاهدته".
مخرج الكليب: أنا أيضاً مسيحي
يرفض مخرج الكليب ميشال تقلا ما يُقال عن الإساءة للمسيحية. "هذه ليست إشارة صليب. هذا فنّ ولا نقصد المسّ بالديانات". ننقل إليه رأياً يرى في التركيبة بأسرها ابتذالاً الغاية منها إحداث ضجة. يرفض ثانية: "لو أردنا الضجة لعرضناه عبر الشاشات". لكنّكَ تعلم أنّ الأمر صعب والتلفزيونات تتروّى أمام ما قد يراه الجمهور إهانة للأديان. يكرر بأنّه مع الكنيسة وهو مسيحي يقدّر أهمية الصليب: "أنا أقدّمُ عملاً لا يتوجّه فحسب إلى الجمهور اللبناني. أفكّر بالعالمية. أدركُ أنّ المجتمع اللبناني لا يستوعب هذا النوع من الأعمال. لذلك عرضناه عبر "يوتيوب" تاركين الخيار للمُشاهد بزيارة الموقع أو رفض الأمر. حتى الآن لا نفكّر في عرضه عبر التلفزيون. سيبقى متاحاً عبر "يوتيوب" ونحن نتقبّل جميع الآراء".