إلى الحلم انطلقوا وبحياة أفضل طمحوا، لكن جرت الرياح بما لا يشتهي مركبهم فغرقوا وآمالهم في ظلمات بحر عاتٍ لم يرحم صراخ أطفال ورعب شباب وعويل نساء، ابتلع أربعة منهم، وقذف خمس جثث إلى الشاطئ فيما نجا ثلاثة آخرين بعد أن قاوموه حتى الرمق الأخير.
يوم الأحد الماضي ودع مايز صفوان(63 عاماً) وزوجته مريم (45 عاماً) وبناته ماي (9 سنوات) وألين (7 سنوات) وميلاني من زوجة ألمانية (42 عاماً) وأولادها وائل (20 عاماً) وماهر(13 عاماً) ومالك (7 سنوات)، وابنه موسى (22 عاماً) وزوجته حورية الخطيب تحمل الجنسية السورية وحامل في شهر التاسع (17 عاماً) باقي افراد أسرتهم وغادروا إلى اسطنبول حيث التقوا بقريبهم اياد (اربعيني) وابنه مصطفى (13 عاماً) لينتلقوا جميعاً في رحلة المجهول، خريطتها أزمير - اليونان - المانيا.
حلم قديم-جديد
منزل العائلة في منطقة الاوزاعي يغص بالمعزين، من تبقوا من أبناء مايز مصدومون ينتظرون خبراً يطمئنهم عن المفقودين، ابنه محمد تحدث عن والد أراد البحث عن حياة أفضل بعدما غيّرت الحرب السورية مسار مستقبلهم "كنا نسكن في بلدة غوغران القريبة من القصير، لدينا أراضٍ شاسعة نسترزق منها، قبل نحو أربع سنوات تهجرنا واستأجرنا في الأوزاعي، لم يجد والدي عمل، وبعد أن سمع عن الرحلات غير الشرعية الى المانيا قرر السفر، لاسيما وأنه سكن لفترة في هذه الدولة الاوروبية ايام شبابه وتزوج من سيدة المانية هي والدة شقيقتي ميلاني".
ضربة حظ !
أكثر ما دفع مايز الى السفر هو مرض ابن ميلاني "مالك مصاب بمرض السكر، رفضت المدارس اللبنانية استقباله كون وضعه حرجاً ويحتاج الى ثلاث ابر انسولين يومياً كما أن شقيقي موسى يعاني من المرض عينه"، ولفت الى انه " بعد ان تردد على مسمع الوالد موضوع الهجرة_غير_الشرعية والحياة الكريمة التي يعيشها المهاجرون في المانيا قرر قبل نحو شهر ان يجرب حظه علّه يجد علاجاً ومدرسة لمالك وحياة كريمة للجميع".
في المجهول
وعن السمسار الذي تواصل معه مايز لكي ينفذ مخططه ويصل الى الحلم المنشود أجاب أحد أفراد العائلة: " التواصل حصل مع شخص سوري في تركيا وليس في لبنان، لكن عندما وقعت الكارثة اتصل بنا ليخبرنا أن اشكالاً على السعر حصل مع والدي فاستقل مركباً آخر وأن لا ذنب له بما حصل"، ويبلغ ثمن التذكرة على "قارب الموت" بين 1000 و 1200 دولار، وقال: " أطلعنا المهرب ان المركب دخل بعد نحو 23 دقيقة إلى المجهول".
الحلم الغريق
عند الساعة الثانية عشر منتصف ليل الثلاثاء كان آخر اتصال تلقته العائلة في لبنان من مايز أخبرهم أنهم في أزمير وسيبدأون مشوار الألف الميل، لكن للأسف لم يكملوه، فعند الساعة الثانية عشر ظهر أمس تلقت مايزة شقيقة مايز اتصالاً من ابنه ماهر يطلعها فيه أن المركب الذي كان يقلهم غرق وأنه سبح للشاطئ وبعد أن استيقظ من غيبوبته وجد نفسه في احدى المستشفيات التركية ولا يعلم شيئاً عن باقي أفراد أسرته، ليتلقوا بعدها اتصالاً من موسى أخبرهم بوفاة زوجته حورية رغم محاولة انقاذها كونها لا تجيد السباحة لكن البرد جمد أطرافها ومنعها من استكمال المقاومة فاستسلمت ليكمل هو ويصل الى الشاطئ بعد سبع ساعات من السباحة.
رحيل موجع
كذلك تمكن اياد من النجاة لكن ابنه مصطفى أسلم الروح على الرغم من انه يجيد السباحة،علّه وجد ان الحياة لا تستحق كل هذه المعاناة فقرر الاستسلام والانتقال الى عالم آخر سمع يوماً أنه أكثر أمناً، كما يردد من عرفوه من دون ان يسمعوا هذه الكلمات منه. والدته علا تعاني من حالة هستيرية بعد سماعها خبر غرق المركب يوم عيد مولد ابنها وهي لم تكحل عينيها برؤيته منذ عامين، وتقول احدى القريبات: "عانت علا من مشاكل مع زوجها، منذ مغادرتهم افريقيا وسكنهم في تركيا حيث جلس في المنزل من دون عمل، تركته وعادت مع ابنتيها إلى لبنان، كونه منعها من أخذ ابنها معها".
قذف البحر جثث مصطفى وحورية ولين أمس واليوم قذف جثتا مريم وميلاني، ولايزال محتفظاً بسر مايز، ماي، مالك ووائل، العائلة في لبنان تترقب، وقد قصد وفد منها المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى وكذلك وزارة الخارجية والمغتربين حيث تمت مقابلة أمين عام المغتربين هيثم جمعة الذي أطلعهم ان الوزارة أرسلت قنصل لبنان في تركيا الى أزمير لمتابعة الموضوع ومعرفة مصير الجميع".
حطام "أرواح"
هي ضريبة البحث عن حياة تشبه الحياة بطرق غير شرعية، ضريبة باهظة قد تكلف فاتورتها الحياة! ومع ذلك لا أحد يقامر ويخوض غمار هذه التجربة إلا اذا تحكّم به اليأس بعد معاناة مريرة في بلده وأمام مستقبل غامض ينتظره، وهذا ما سيدفع غداً شبان لبنانيون للقيام برحلة مماثلة، بعضهم وصل الى تركيا والبعض الآخر في طريقه، على أمل ألا يدفعوا الفاتورة عينها فيتحوّل المركب الذي سيستقلونه حطاماً ومعه أرواحهم وأحلامهم!