مشهد الحراك أوّل من أمس في وسط بيروت دلّ إلى وجود نيّات تصعيدية تزامنت مع سقوط التسوية السياسية، وكأنّ هناك من أراد أن يعطي إشارة الدخول في مرحلة سياسية جديدة عنوانها التأزيم السياسي. فالمواجهة التي خيضَت ضد القوى الأمنية تشبه أيّ شيء إلّا التظاهرات المدنية السلمية، حيث إنّ استخدام العنف شكّل الوسيلة الأساسية لتحقيق هدفين: التعويض عن ضعف المشاركة، وإعادة تعبئة الناس الذين ابتعدوا عن هذا الحراك في اللحظة التي أيقنوا أنّ أهدافه المطلبية ما هي سوى غطاء لأجندته السياسية، وما بين هذين الهدفين محاولة إحداث ثغرة في جدار السلطة من أجل إدخال البلد في المجهول. وقد حاولَ الحراك توظيفَ ثلاثة عوامل لمصلحته: سقوط التسوية السياسية، عدم توصّل الحوار إلى أيّ نتيجة عملية، والمراوحة في خطة النفايات، إلّا أنّ توسّله العنف أفقدَه البيئة الشعبية الحاضنة لتحرّكه. وفي موازاة هذا الجانب تتوجّه الأنظار إلى احتفال «التيار الوطني الحر» غداً بمناسبة ذكرى 13 تشرين، إنْ على مستوى المشهدية التي من المتوقع أن تكون حاشدة انطلاقاً من رمزية الذكرى وطبيعة المكان وحراجة اللحظة التي يعيشها التيار اليوم بعد سلسلة كبواته السياسية، أو على مستوى الخطاب السياسي الذي من المتوقع أن يكون شديد اللهجة بعد سقوط التسوية مبدئياً، وأن يحدّد فيه رئيس تكتّل «التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون توجّهه في المرحلة الجديدة على مستوى مشاركته في الحكومة والحوار. وصَل العماد عون إلى قناعة أنّ قواعد اللعبة السياسية المعمول بها اليوم التي لا تخوّله إقرار ترقية عسكرية، لن تفسح في المجال أمامه للوصول إلى بعبدا، وبالتالي مصلحته الطبيعية تكمن في قلب الطاولة، في محاولة لإعادة إحياء فرصه الرئاسية التي أثبتت توازنات هذه المرحلة أنّها معدومة، وأنّ الخيار الوحيد هو في قلب هذه التوازنات. ولكنّ السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه: هل «حزب الله» في وارد تغيير قواعد اللعبة في لبنان؟

فكلّ المؤشرات تؤكد أنّ الحزب ليس بوارد إدخال أيّ تغيير على استراتجيته في لبنان والتي تتلخّص بالمعادلة القديمة نفسها: الحفاظ على الاستقرار في لبنان من أجل التفرّغ للقتال في سوريا، وذلك ترجمةً لمقولة الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله الشهيرة «تعالوا نتقاتل في سوريا ونحيّد لبنان».

وكلّ الكلام عن أنّ الدخول الروسي إلى المعترك السوري سيدفع الحزب إلى إعادة ترتيب أولوياته ليس في محلّه، لأنّ انخراط موسكو في الحرب لا يعني أنّ الأزمة السورية دخلت فصلها الأخير، بل هو فصل على غرار الفصول الأخرى، وبالتالي من مصلحته التمسّك بقواعد التفاهم مع «المستقبل» في لبنان. فهما يتواجهان في الموقف السياسي إقليمياً، ويحرصان على التبريد السياسي داخلياً، وقد شكّل البيان المشترك الأخير الصادر عنهما بعد جلسة الحوار أبلغَ رسالة عن تمسّكهما بالحوار والاستقرار.

وفي ظلّ سقف الحوار والاستقرار الذي يضعه «حزب الله» يبقى السؤال عن سقف المواجهة التي يمكن أن يبلغها العماد عون، حيث إنّ أكثر ما يمكن أن يسجّله خروجه من الحوار الجامع، ما قد يدفع رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى تعليق هذا الحوار ربطاً بقوله السابق إنّ خروج عون بعد رفض رئيس «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع يفقِد الحوار ثقله المسيحي. أمّا لجهة الحكومة فهي مجمّدة، ولا تلتئم إلّا غبّ الطلب، فيما الحوار الثنائي بين «المستقبل» والحزب لا يبدو أنّ الطرفين في وارد تعليقه.

وإن دلّ كلّ ما تقدّم على شيء، فعلى أنّ البلد أمام أزمة وطنية، والعماد عون أمام أزمة سياسية، والحراك أمام أزمة ثقة شعبية مبكرة بأهدافه وسلوكه.

كنعان

وفي وقتٍ تشخص الأنظار غداً إلى طريق القصر الجمهوري في بعبدا حيث يُحيي «التيار الوطني الحر» ذكرى 13 تشرين 1990، دعا النائب ابراهيم كنعان الى ترقّب خطاب العماد عون اليوم لأنه سيكون مفصلياً في هذه المرحلة، مؤكداً أنّ التظاهرة اليوم ستكون حاشدة.

وأكد كنعان لـ«الجمهورية»: «أنّ ما قبل 11 تشرين سيكون غير ما بعده، فالمعادلة بالنسبة للتيار مختلفة تماماً، وما كان مقبولاً قبل هذا التاريخ لن يكون مقبولاً بعد اليوم، والمقاربات التي كانت تحت سقف معيّن لن تكون قائمة في المرحلة المقبلة».

وأضاف: «تحلّ ذكرى 13 تشرين هذا العام مترافقةً مع نفس الشعور الذي انتابنا في العام 1990، فنحن نعيش اليوم 13 تشرين سياسي جمعَ الأضداد مجدّداً بعد 25 عاماً في محاولة لإلغاء منطق الحقوق والشراكة وحق الوجود، لكن كما في كلّ مرة نحاصَر فيها ونُعزَل ونُقتل نعود أقوى من ذي قبل. فنحن تيار يولد متجدداً من رحم المعاناة والقهر والاستبداد».

وعن التعاطي مع المرحلة المقبلة، وهل سينسحبون من الحكومة والحوار بعد سقوط التسوية؟ أجاب كنعان: «كلّ هذه الأمور تفاصيل بالنسبة الى المعادلة الجديدة التي سنطرحها، فالمشاركة في السلطة والتواصل مع الآخر وغير ذلك من الامور لا تعدو كونها وسائل لتحقيق هدف ما، وليست غاية بحدّ ذاتها. ونحن سنقوم بتكييف الوسائل التي سنعتمدها مع الاهداف الجديدة التي سنطرحها في 11 تشرين».

سلام

وعلى المقلب الآخر، نعمَ وسط بيروت أمس بهدوء حذر بعد المواجهات التي خاضتها مجموعات الحراك المدني ضد القوى الأمنية، حيث استفاقت بيروت على مشهد ذكّرَ بمشاهد الحرب الأهلية، بعد أن تحوّلت ساحاتها إلى ساحات مواجهة فعلية لكسر هيبة القوى الأمنية ومحاولة إسقاط الحكومة في الشارع لإدخال البلد في فراغ كامل يفتح الباب أمام تسوية سياسية بشروط الطرف الأقوى.

وقد وضَع رئيس الحكومة تمام سلام خطوطاً حمراً للحراك، معتبراً أنّ جهةً ما تحاول حرفَه عن أهدافه واستعماله لغايات لا تخدم المصلحة العامة للبنانيين، ولا الغايات التي من أجلها انطلق.

وقال سلام إنّ «ما رأيناه من أعمال تخريب متمادية خرجَ عن إطار التعبير السلمي عن الرأي، وتحوّل الى شغب وأعمال غوغائية تطرَح أسئلة كثيرة حول الغاية من نشر الفوضى المتنقلة في البلاد».

ودعا «المنخرطين في التحرّك الشعبي بحسن نيّة وبدوافع وطنية صافية، الى حفظ النظام العام وعدم الانجراف في مسار العبث المجاني الذي يضرّ بالبلاد ولا ينفع الحراك المدني». وأكّد سلام «أنّ المساس بالأمن والاستقرار في البلاد خط أحمر، وأنّ مخالفة القانون والاعتداء على قوى الشرعية وعلى الممتلكات العامة والخاصة ستواجَه بحزم وبأقسى ما يسمح به القانون».

وقالت مصادر سلام لـ«الجمهورية» إنّ «القلق الذي ساوَره في الساعات الماضية له ما يبرّره ومردّه الى شكل الاحتجاج الذي عبّرت عنه مجموعة لا تتّصل بالحراك وأهدافه، على رغم وجود بعض قيادييه في المواجهة مع القوى الأمنية».

وأشارت الى أنّ «ما رفعَ من منسوب القلق لديه هو الاعتداءات التي طاولت القوى الأمنية والأملاك الخاصة، وهذا أمرٌ «مرفوض وخطير»، والقوى الامنية مصمّمة على تطبيق القوانين وحماية الممتلكات والمؤسسات العامة والخاصة، ولن يثنيها موقف جاحد من هنا وآخر لم نفهَم أسبابَه الموجبة إلى اليوم من هناك».

مرجع أمني

تزامناً، قال مرجع أمني لـ«الجمهورية» إنّ القوى الأمنية لم تفاجَأ بما جرى في وسط بيروت، وكانت تحتسب ما ينوي بعض مَن يركب موجة الحراك ويستغلّ تحرّكاته، القيامَ به، فما حصل، ولا سيّما ليل الخميس – الجمعة قطعَ الشكّ باليقين، وأثبتَ أنّ المعتدين على الأملاك العامة والخاصة ليسوا من هذا الحراك ولا ممّن يؤيدونه، ولا يرغبون بأن يحقّق ما أراده من مطالب تجاوزَت المنطق الطائفي والمذهبي والمناطقي وباتَت عابرة لكلّ الطوائف والمناطق.

وقال المرجع: «إنّ ما قام به بعض المتظاهرين لا يمثّل أياً من اللبنانيين الحريصين على الحراك وأهدافه، وهم منبوذون من كلّ اللبنانيين، وأتحدّى من يقول العكس»، ودعا «منتقدي أداء القوى الأمنية الى استفتاء الناس، فإذا أراد اللبنانيون ما حصل سنكون إلى جانبهم».

درباس

وقال الوزير رشيد درباس لـ«الجمهورية»: «إنّ البلد في حالة معلّقة إلى أن يقذف الله نوراً في الصدور»، مبدياً اعتقاده بأنّ سلام سيدعو إلى جلسة قريباً لبحثِ خطة النفايات، وأن يغيب عنها «التيار الوطني الحر»، ويشارك تيار «المردة» و«حزب الله»، متوقّعاً أن يذهب عون إلى مزيد من التصعيد غداً.

وعن مصير الحكومة، قال درباس: «إذا كان المرء يحمل لوحَ زجاج، فليس معناه أنه صاحب هذا اللوح، لأنّه يمكن أن يكون ينقله من مكان إلى آخر. فمزيد من التهديد بكسر هذا اللوح لم يعُد يعطي ثماره، ورئيس الحكومة قال للمتحاورين بالفم الملآن إنّ عدم وجود الحكومة أفضل من وجود حكومة غير منتجة.

لسنا فريقاً سياسياً يقبض على زمام الحكم لتحقيق برنامج خاص، بل هيئة سياسية تقوم بحراسة الهيكل لكي لا يتصدّع، وهذا الهيكل ملك كلّ الناس، وبالتالي كلّ واحد يهزّه يكون يهزّه على نفسه، لأنّ هذا السقف يظلّل الجميع».

أهالي العسكريين

وتابعَ أهالي العسكريين المخطوفين تحرّكهم باتجاه المسؤولين للتذكير بقضية أبنائهم، فقطعوا الطريق أمام وزارة الداخلية ثمّ توجّهوا إلى أمام دارة سلام في المصيطبة على أن يلتقوا وزير الداخلية نهاد المشنوق ظهر الثلثاء المقبل.

إبراهيم لـ«الجمهورية»

وقال المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم لـ«الجمهورية» إنّه يتعاطف مع كلّ حركة يقوم بها أهالي العسكريين، وهذا من حقّهم، إنّما هذا التحرّك يضرّ بمسار الملف ويجعل الخاطفين يتصلّبون بشروطهم ومواقفهم.

وقد اتّبعنا منذ فترة بعد تعاطيهم بسلبية مطلقة مع تنفيذ الاتفاق، تكتيكاً يأخذ في الاعتبار عاملَ الوقت، وهذا العامل يُعتبر مهماً جداً في التفاوض وتحقيق الهدف، وما يقوم به اهالي العسكريين حالياً يفوّت علينا فرصة الاستفادة من هذا العامل، فنحن حريصون عليهم مثلهم تماماً، لكنّنا نتصرّف بعقل، أمّا هم فيتصرّفون بعاطفة، والعاطفة تضرّ بملفات من هذا النوع.

نحن أبرمنا اتفاقاً مع جبهة النصرة عبر الوسيط القطري، وهم علّقوا تنفيذه، وعندما يشعرون أنّ لديهم مصلحة بتنفيذه نحن جاهزون، علماً أننا نتابع يومياً هذا الملف عبر اتصالات يومية مع الجانب القطري الذي أبلغنا في آخر اتصال أجريناه معه أمس أنّه يتابع تواصله مع «النصرة»، وعندما يكون هناك أيّ تطور يؤدّي الى خطوات عملية سيَضعنا في الأجواء. لكن لا شيء يستدعي اللقاء مع القطري لمناقشة تفاصيل التنفيذ.

هذا في ما خصّ «النصرة»، أمّا في ما يتعلق بتنظيم «داعش» فأكّد ابراهيم أنّه لا يدع باباً إلّا ويطرقه من أجل معرفة مصير العسكريين المخطوفين لديهم، وقال: «نبذل كلّ جهدنا لفتح قنوات اتصال وهم يرفضون، وحتى الساعة لا أخبار لدينا ولا معلومات جديدة تتعلق بالعسكريين المخطوفين التسعة لديهم».

وغادر ابراهيم لبنان أمس في زيارة أمنية إلى الكويت بناءً على دعوة وزير الدفاع، حيث من المنتظر أن يعقد لقاءات رسمية وذات طابع أمني لمناقشة الهموم الأمنية المشتركة ومواجهة الإرهاب، خصوصاً بعد ما تعرّضت له الكويت من اعتداءات إرهابية في الفترة الأخيرة.

وعشية سَفره إلى الكويت، لفتت زيارة اللواء ابراهيم إلى الأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصر الله، وعلمت «الجمهورية» أنّ اللقاء دامَ ثلاث ساعات ونصف الساعة، وتمّت فيه مناقشة كلّ التطورات المحلية والإقليمية، إضافةً إلى ملف العسكريين المخطوفين، حيث سأل السيّد نصر الله عن آخر المعلومات المتعلقة بهذا الملف. تجدر الإشارة الى أنّ لقاء ابراهيم مع السيّد نصر الله هو أوّل لقاء يعقده ابراهيم بعد عودته من الفاتيكان ولقائه البابا فرنسيس.

موقف فرنسي

وفي المواقف الخارجية، حضّت فرنسا لبنان على «ضرورة الخروج من المأزق المؤسساتي، ومساعدته على مواجهة تداعيات الأزمة السورية»، وقال الناطق الفرنسي باسم وزارة الشؤون الخارجية والتنمية الدولية رومان نادال إنّ على فرنسا، التي ترتبط بعلاقة مع جميع اللاعبين اللبنانيين، العمل من أجل محاولة التشجيع للتوصل إلى حلّ مؤسساتي، ونحن نناقش الوضع مع بلدان المنطقة.

وفي المقابل، هناك جانب مؤسساتي، ونحضّ اللاعبين السياسيين اللبنانيين على الخروج من هذه الأزمة عبر انتخاب رئيس للجمهورية، وهذا أمر مهمّ جداً. فرنسا لا تتدخّل في هذا الخيار، إنّها تحثّ اللاعبين المؤسساتيين اللبنانيين على الخروج من هذا المأزق، وتجاوزِ هذه الأزمة المؤسساتية».

«الحزب»

وسط هذا المشهد، قال نائب الأمين العام لـ»حزب الله» الشيخ نعيم قاسم إنّ المنطقة بأسرها في حالة غليان، والمسارات النهائية في هذه المنطقة لم تُحسَم بعد، فليس واضحًا كيف يكون الحلّ السياسي في سوريا ولا في اليمن، ولا كيف سيستقرّ العراق في نهاية المطاف، ولا وضع لبنان إلى أين نصل به، ولا الكثير من بلدان المنطقة، وأكّد أنّ «المرحلة تتطلب وقتًا قبل أن تُحسَم الخيارات المختلفة، ولكنّ محور المقاومة في أيّ موقع من المواقع في الحد الأدنى هو صامد أمام التداعيات».

وتوجّه قاسم الى الفريق الآخر بالقول: «إذا كنتم تراهنون على الخارج فهذا الخارج لن يأتيَكم بجديد لمصلحتكم، المسارات تتّجه نحو مصلحة المقاومة، ولا يمكن أن تتّجه لمصلحة الأطراف الأخرى المعتدية، والمراهَنة على الخارج مضيَّعة للوقت».