كل مَن قرأ واقعة الطف في عاشوراء المحرّم , من مسلمين وغير مسلمين , خرج بانطباعات إنسانية مذهلة , حتى أن الكثيرين قد وقفوا حيارى أمام وصف سلوك وسيرة الامام الحسين بن علي عليهما السلام , ولم يستطيعوا أن يشبّهوا الامام الحسين عليه السلام بأحد من الرجال , لِمَا تميّز به من سماحة وتسامحٍ وسمو القيم الاخلاقية التي بها أثبت بجدارة أنه مدرسة متميّزة لكل الاجيال ولكل الحُقَب ولكل الاحداث ولكل تفاصيل الحياة .
كيف يمكن أن نصف رجلا بكى على قاتليه خوفا على مصيرهم الدنيوي والأخروي , بكى على إعدائه وهم يطعنونه بالرماح , ويشفون غليلهم منه كرها بأبيه , وقال : أبكي على قوم سيدخلون النار بسببي .
كيف يمكن أن نصف رجلا , لم يترك فرصة للحوار وللتسامح , إلا وطرحها على أعدائه المحاربين في الميدان , بين طعنة رمح وبين ضربة سيفٍ كان يطرح الحوار والتسامح , لله درك فإن الله أعلم حيث يجعل رسالته .
هكذا أراد الامام الحسين عليه السلام , أن يُثبّت القيم الاخلاقية والدينية , لأنها هي المحور في رسالة السماء , والهدف الالهي من بعْثِ الانبياء , كيف لا وكان أهم وصف من الله تعالى للنبي (ص) , أنه على خُلُقٍ عظيم .
أراد الامام الحسين عليه السلام , كما أراد الله وكما أراد النبي , أن يكون الاسلام والمسلمين صورة واحدة , فمارسها الامام عليه السلام بأبهى صورها , فكان مثالا للاسلام وأحب أن يكون المسلمون كذلك , مثالا للمحبة والتسامح والوحدة .
لم يكن تركيز الامام عليه السلام وتمسكه بتلك القيم والسيرة التي تمثّل بها في واقعة كربلاء وغيرها في حياته كلِّها , إلا لأنه يريد من المسلمين وخاصة أتباعه أن يقلدوه بمثلها , ولم يأتي على ذكر الحرب والسيف والقتال بقدر ما ركّز على عنوان الاصلاح والوحدة والتسامح , هذا ما اراده الامام وهَدَف إليه , ولم يبأهم بقتال حتى بدؤوا , ولم يردّ سبّهم بسبْ بل ردّ بدعاء لهم بالهداية , ووعظهم وكرّر الوعظ , وألقى الحجة عليهم مرارا , وذكّرهم وأكثر من التذكير والتعريف بالاسلام وأهدافه , وبالقرآن والرسالة .
هكذا يكون القائد الصادق المُحِب للأسلام ولمصلحة المسلمين , يدعوا للوحدة والتآخي بصدق , وينصح بصدق , ويوعظ بصدق , ولا يحرّض المسلمين على قتال المسلمين , ولا يساعد على بثّ التفرقة والبغضاء والكراهية بين المسلمين , بل يكون حريصا على الوحدة بينهم .
فمَن أراد أن يتمثّل بالامام الحسين عليه السلام , وبواقعة كربلاء , ينبغي عليه أن لا يُغفل الجوانب الاساسية من سيرة الامام ومن واقعة الطف , ومن البديهي أن واقعة الطف ليست معركة عسكرية عابرة حتى يتمسك البعض ويتمثل فقط بالجانب العسكري لها , ويُغفل الجوانب الاخرى منها التي هي ثقافية بامتياز .
إن واقعة الطف في الواقع هي صراع بين ثقافتين , بين ثقافة الحرية التي حملها الامام الحسين عليه السلام ودافع عنها وبذل من أجلها كلّ غالٍ ونفيس , وتمثّل قائلا : والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل , ولا أفرّ فرار العبيد , وبين ثقافة العبودية التي جعلت جماعة من المسلمين لا يميزون بين الناقة والبعير , ورضخوا بهذه الثقافة لزعيم مارس عليهم أبشع أنواع الاستبداد , وسلك بهم سُبُلَ الضلال فخسروا الدنيا والاخرة .