من بين أنواع الفساد السياسي في لبنان وأشكاله ونكهاته، يبقى للفساد العوني وقع أثقل على النفوس، ليس فقط لأنه يأتي مترافقاً مع إدعاء العفة، إنما أيضاً لأنه يأتي محفوفاً مع وجوه أصحابه الذاهلة وغير المُصدقة بأن ما أتت به فساد.
ثمّة من يعتقد أن الفساد حق مُنِحه من خالقٍ، وهو بهذا المعنى صلاة، وليس فساداً، إلا إذا أقدم عليه الغير. هو فساد ذاهل ومُساجل ومتوتر، بينما يشعر المرء بأن فساد حركة أمل مثلاً فساد مبتسم وعادي وجارٍ. أما فساد "المستقبل" فهو مؤسَسٌ وأناني ومنكفئ. وفي هذا السياق يأتي الفساد الجنبلاطي شفافاً ومُتوّجاً باعترافات، وفساد "حزب الله" ايديولوجي وثقيل ظلٍ.
الفساد العوني أكثر إثارة، ذاك أنه قد يأتي مصحوباً مع تظاهرة عونية ضد الفساد. المثال الأخير على ذلك، تمثل بأن عشية التظاهرة العونية الأخيرة في ساحة الشهداء، والمطالِبة بعودة مؤسسات الدولة إلى عملها وإجراء انتخابات نيابية، جرت حفلة توريث الجنرال ميشال عون تياره إلى صهره جبران باسيل.
مثال آخر في سياق مختلف تماماً. فالتيار الوطني الحر صاحب مقولة إقفال الحدود في وجه اللاجئين السوريين بحجة ما يمثلونه من أعباء على الخزينة، هذا التيار هو نفسه من يتولى وزير منه (وزير التربية الياس بو صعب) مهمة إنفاق نحو 150 مليون دولار هي هبات من مؤسسات دولية لتعليم التلامذة السوريين النازحين في المدارس الرسمية اللبنانية.
وفي ظل "شفافية" الوزير عَجِزنا منذ أكثر من ثلاثة أسابيع عن التدقيق بمعلومة وردتنا عن راتب المسؤولة التي عيّنها لمهمة إدارة مشروع تعليم التلامذة السوريين في لبنان والتي تقول "إشاعة" أنها تتقاضى عشرة أضعاف راتبها من الوزارة، ومعلومات أخرى عن أبواب هدر وترزّق، من أموال من المفترض أن تُخفف عن دولتنا المقدسة أعباء النازحين الذين ضاق بهم صدر الجنرال وصهره.
لكن لماذا يثير الفساد العوني ما لا يثيره فساد الآخرين؟ الأجوبة حتى الآن غير مقنعة. إدعاء العفة لا يكفي، ذاك أن "العفة" تشمل الجميع.
يجب العودة إلى نوع العلاقة بين ميشال عون وبين جمهوره وشعبه. هذه العلاقة يتخللها صراخ كثير، وربما يخال المرء معه أن الصراخ يقتضي صراخاً موازياً، تماماً كما قد ينزلق واحدنا إلى مواجهة فساد حركة أمل بابتسامة، أو قد يُعجب بشفافية وليد جنبلاط عندما يقول: "أنا جزء من هذه الطبقة الفاسدة ويجب أن نحاكم كلنا".
لكن العودة إلى العلاقة بين الجنرال وبين "شعبه" لم تعد كافية أيضاً لتفسير سر الضيق بفساد العونية في مقابل ضيق أقل بفساد الآخرين. على المرء أن يبحث أكثر تجنباً لسقوطه بالتجني.
ثمة غطاء اجتماعي وطائفي لفساد الآخرين. فالفاسد تشعر الطائفة التي خلفه بأنه ممثلها في الفساد، وأنه في مقابل فساده ثمة طائفة أخرى فاسدة.
المسيحيون منقسمون الى نصفين، وأن تكون خلفك، وأنت تفسد، نصف الطائفة، فهذا لن يُسهل عليك المهمة. وصحيح أن هذه المعادلة لا تُفسر لوحدها تعثر العونية في المهمة التي انتدبت نفسها إليها، لكن من الممكن إدراجها في سياق التفسيرات المتواترة عن الظاهرة.
المصدر:ناو