«الكل يشعر بالسوخوي». في لبنان والمنطقة وربما العالم بأسره.
قبل نحو سنتين، شعر الكثيرون في المنطقة بـ «السخن». تحدثوا وتصرفوا ومن ثم راهنوا على أن الضربة العسكرية الأميركية لسوريا «باتت حتمية». سرعان ما أخرج الروسي «الوصفة» من جيبه، فتم اقفال «ملف الغوطة» من خلال آلية دولية بضمانة روسية لإخراج السلاح الكيميائي من الأراضي السورية.
سقط «الخيار العسكري الكبير»، لكن الرهان ظل مستمراً على إمكان تحقيق انتصارات متدحرجة للمجموعات السورية المسلحة بإدارة غرفتي العمليات التركية والأردنية. مرّت سنتان من المعارك لم تبدّلا في خريطة التوازنات الاستراتيجية، وبدا الرهان كبيراً على إمكان جعل المنطقة العازلة في الشمال السوري أمراً واقعاً، قبل أن تبدأ «حرب اليمن» وتقرّر السعودية، بالتزامن مع إبرام التفاهم النووي، أنها لن تعود من «عاصفة الحزم» إلا منتصرة!
لم ينس الثعلب الروسي فلاديمير بوتين جلسته الشهيرة مع الأمير بندر بن سلطان يوم استقبله في موسكو، في صيف العام 2013، بصفته رئيس الاستخبارات السعودية.. قال الأخير لبوتين إن المجموعات الشيشانية التي تهدد أمن الألعاب الشتوية المقبلة في سوتشي «نحن نتحكم بها، وهي لم تتحرك في اتجاه الأراضي السورية إلا بالتنسيق معنا».
هذا في الحسابات الروسية تهديد مباشر للأمن القومي الروسي. أكثر من عشرين مجموعة أصولية روسية من الشيشان تتحرك خصوصاً في منطقة الشمال السوري، ناهيك عن مجموعات أخرى من باقي الجمهوريات الاسلامية تتحرك بين العراق وسوريا.
وعندما تسقط سوريا أو العراق بيد المجموعات الإرهابية، فإن ذلك يضع روسيا على تماس مع حرب ارهابية بلا هوادة.
التقط الروس «الفرصة» وانخرطوا في الحرب الاستباقية. هم تأخروا وفقاً لحسابات النظام السوري وحلفائه، لكن فلاديمير بوتين يريد أن يستفيد من مجموعة وقائع جديدة تزنّر النظامين الدولي والاقليمي، من أجل تعزيز مصالح بلاده. لا يمكن عزل «الإنزال الروسي» في شمال سوريا عن اللقاء الأخير بين بوتين والرئيس الأميركي باراك أوباما على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة. التواضع يقود لافتراض أن الأميركيين يغضّون النظر ولكن الروس يؤكدون أنهم على تفاهم كامل مع الأميركيين وأنهم أبلغوا جميع عواصم المنطقة بما فيها تركيا والسعودية ومصر واسرائيل بقرارهم.
قد يقال الكثير عن الحشود ونوعية الأسلحة والطائرات وكل المعطيات الحربية. يكفي هنا تقديم نماذج ثلاثة:
• رسم الأميركيون ومعهم دول «التحالف» سقفا لغاراتهم الجوية ضد «داعش» على قاعدة أن هامش الخطأ ممنوع. يجب أن يضمن الطيار عدم اصابة أي هدف غير عسكري. قادهم ذلك الى الصحراء والى غارات بلا فاعلية عسكرية.
• ليس خافياً على أحد أن النظام السوري كان يفتقد لمظلّة جوية قتالية، وكان الهدف الواحد يحتاج أحيانا الى عشرين طلعة جوية وإلقاء عشرات البراميل الجوية بطريقة بدائية جدا من دون أية فاعلية ميدانية!
• عندما يعطي السوريون والإيرانيون والعراقيون و «حزب الله» احداثية معينة للروس في اطار غرفة العمليات المشتركة، تأتي النتيجة، بعد طلعة جوية واحدة، مطابقة ودقيقة وتتجاوز بقدرتها التدميرية الهدف نفسه.
ثمة تبدل نوعي في الميدان. ارتفعت معنويات النظام وهو يتصرف على قاعدة أنه بات قاب قوسين وأدنى من استعادة ادلب وجسر الشغور، برغم ما يحصل من ترنّح في المقابل لهدنة الزبداني.
ما كان مقدراً نظرياً أنه يحتاج الى شهور ثلاثة أو أربعة تبين للروس عمليا أنه يحتاج الى اسابيع وربما تصبح أياما معدودة. العنف الجوي الروسي غير المسبوق طيلة سنوات الأزمة السورية الخمس، يتسبب بانهيار في كل «الجيوش» المسلحة الممسوكة تركيا وسعوديا في شمال سوريا. النتيجة هي اختصار البرنامج الجوي وتسارع الاستعدادات البرية من النظام وحلفائه اللبنانيين والعراقيين والايرانيين.
يقول الروس إن حربهم لن تقتصر في مرحلة لاحقة على الشمال بل ستنتقل حتما الى باقي مناطق سوريا «من دون استثناء». يلمحون الى أن عمليتهم منسقة بالكامل مع الاسرائيليين. هم أعطوا ضمانات بأن ترسانتهم لن تستخدم الا في اطار الحرب ضد الارهاب. هذا الأمر متفاهم عليه بين مساعد وزير الخارجية الايراني حسين أمير عبد اللهيان ونظيره الروسي ميخائيل بوغدانوف خلال زيارة الأول لموسكو مؤخرا. الأهم أن هذه الحملة العسكرية التي يمكن أن تتوسع جوا لتقترب أكثر من الحدود اللبنانية والأردنية والعراقية، ليست تعبيرا عن قرار روسي بالحسم العسكري. المطلوب تنشيط التواصل مع الأطراف الدولية والاقليمية الفاعلة في اطار الحرب ضد الارهاب وصولا الى انجاز تسوية سياسية للأزمة السورية.
عنصر الوقت يحسب الروس حسابه. لم يتبق من عمر ولاية باراك أوباما الا نحو سنة. يجب أن توضع سوريا في مطلع العام 2016 على سكة التسوية. قد تحتاج الى سنوات ولكن لا بد من بداية ما. هذه البداية تحتاج الى شراكة بين النظام و «المعارضة السورية». عندما تُخلع أنياب المعارضة، أي المجموعات المسلحة التي كانت تشكل بايقاعها، مهما كانت مسمياتها، رافعة لخطاب معظم المعارضين، لا بد من جنيف جديد بمشاركة معارضين تحدد موسكو لوائحهم الأخيرة ولا يتجاوز عددهم الأربعين اسما، ويكون لزاما عليهم القبول بالخطة الروسية.
وفق المتداول تقوم الخطة الروسية على وحدة أراضي سوريا أولاً. لا يوجد في قاموس فلاديمير بوتين شيء اسمه «سوريا المفيدة». ثانياً، الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية. ثالثاً، تقديم تنازلات تضع سوريا على سكة التسوية السياسية (اجراء انتخابات نيابية مبكرة وتشكيل حكومة ذات قاعدة تمثيل وتعديل الدستور وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة).
يتقاطع أكثر من متابع عند نقطة مركزية: الخلاف يتمحور حاليا بين موسكو وواشنطن حول مسألة مستقبل الرئيس بشار الأسد. لا يمانع الأميركيون والأوروبيون وحتى الأتراك والسعوديون أن يكون جزءا من مرحلة انتقالية محددة زمنيا، لكنهم يشترطون أن ينتهي دوره بعد انتهاء هذه المرحلة. في المقابل، يؤكد الروس أن الأسد جزء لا يتجزأ من الحل السياسي ويفضلون ترك مصيره الى مرحلة لاحقة نظرا لصعوبة الفصل بين المؤسسات العسكرية والأمنية ورأس النظام. هم يتفقون الى حد كبير في هذه النقطة مع الايرانيين، ولو كانت تعبيراتهم مختلفة أحيانا.
سيبلور الروس تصورهم مع عواصم عربية. بوتين سيستقبل الأميرين محمد بن سلمان ومحمد بن زايد في سوتشي على هامش سباق «فورمولا وان» الذي تستضيفه روسيا حاليا. التواصل الروسي المصري مستمر وثمة رسالة بعث بها الرئيس عبد الفتاح السيسي الى الرئيس الأسد يدعوه فيها الى المبادرة والقيام بخطوات ايجابية تساعد على تسريع التسوية السياسية.
في ظل هذا الاحتدام السياسي والعسكري والأمني في المنطقة، أدرك الجميع في لبنان أن الملف اللبناني ليس في آخر سلم أولويات «الدول» بل غير موجود اطلاقا. لذلك، وبرغم اصرار فريق سياسي على ترك ملف انتخاب الرئيس مطروحا على جدول الأعمال، فان جلوس الايرانيين والسعوديين على طاولة واحدة بات رهن «حرب اليمن» التي لا يبدو انها ستنتهي قريبا، ولن تحسم عسكريا مهما بدت الانجازات كبيرة في لحظة ما. لا بد من تسوية واذا كانت متعذرة مع الحوثيين، «لا بديل من التفاوض مع الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي يملك نفوذا كبيرا في الجيش، وهو الذي بناه بالطريقة ذاتها التي بني بها الجيش السوري»، على حد توصيف مرجع وسطي لبناني، مستشهدا بدروس التاريخ التي أثبتت ان كل جهة خارجية دخلت اليمن خرجت منه مهزومة، وبالتالي فمن الافضل اختصار المراحل والمعاناة عبر تسوية سياسية تراعي مصالح جميع الاطراف الداخلية والاقليمية وتحفظ وحدة اليمن واستقرار الخليج.
«لا بد من صنعاء مهما طال السفر». بهذه العبارة يلخص مسؤول لبناني مخضرم حاجة جميع الأطراف الى الاقدام على فتح الأبواب وإيجاد صيغة استثنائية لأزمة الترقيات تؤدي الى برمجة الأخطاء (الدستورية والسياسية) اللبنانية في سياق يخدم الاستقرار وألف باءه اعادة تفعيل حكومة تمام سلام وفتح أبواب مجلس النواب.
هذا الأمر يقتضي من سعد الحريري أن يقول الأمر لي وأن التسويات تحتاج الى شجاعة استثنائية تفوق بكثير شجاعة الاشتباك الذي لم يعد يحتاج لبنانيا سوى الى دقائق تلفزيونية بدليل الفضيحة التي شهدتها أروقة مجلس النواب، أمس، بين نواب «المستقبل» و»تكتل التغيير».
هل يملك أحد ترف اجهاض التسويات؟
هذا السؤال طرحه المشاركون في حوار عين التينة على أنفسهم، وهم خرجوا من جلسة الأمس وبيدهم صيغة توافقية تحتاج الى تسويق سياسي خلال ساعات أو أيام قبل أن تنتهي المهل ويعلن موت الحكومة سريرياً.