دائماً كان سعيه في غمسة الليل الدامس ، وهدأت من حوله كل الكائنات في الطرقات والأرصفة ، وجثم على القرية سكونٌ رهيب وسط قوافل الفحول الجواهل ..
لم يكن مستعدَّاً لرفع رأسه نحو السماء لعلَّه يرى نقطة ضوءٍ بين نجمٍ وغيم ، ولم يكن يطرق برأسه نحو الأرض ظناً منه بأنّها تابوتٍ خشبيٍّ تفوح روائحه النتنة والكريهة ، كان يسعى من دون إلتفات علوَّاً وإنخفاضاً ليخترق كل الحُجُب الكثيفة بظلمة الظلام ، شاخصاً ببصره كأنّه بصرٌ من حديد ، جُلَّ سعيه أن يمشي مطمئناً مكتسباً سكوناً وطمأنية ، وأُنساً رقيقاً ليصل إلى حياةٍ كريمة وأهداف سامية ، أن يجد الطريق والسبيل لسدِّ حاجاته المادية والروحية من دون أن يكون لأحدٍ فضلٌ ولا منَّة ، يسعى ويجاهد ويناضل ويكافح حتى يجد طريقه هذا ..
مواطنٌ ينظر في حياته إلى أشياء هذا الوجود نظرةً لا يرى عليه حيفاً ولا ضيراً في شيء ، لا يحسد أحداً ولا يكذب ولا يرائي للتوصُّل إلى شيء لأنَّ لديه ما يصلح من أمره ، تلك هي أصابعه الوردية التي ما زالت تشير إلى غمسة الليل بأن تنجلي وتنهزم تلك العتمة ويبزغ نور الفجر لينخفض صوت البلبل ويسمع صوت الرصاص ، فيرتِّل أوتار ذكرٍ وآياتٍ ودعاء ، كي يستأنس بوحشته فتملأ نفسه راحةً وهدوءاً وسكينةً ..
مواطنٌ لم يكن ابن زعيم ورئيس ، أو صاحب سلطةٍ ووجاهة ، لم يكن شاعراً وأديباً وخطيباً وواعظاً في منابر القرية ليستنهض روح الهمم الثورية والدينية ليعتاش بدينه ومهنته ..
مواطنٌ عاد إلى بيته وفي نفسه حسرةً ولوعةً وألماً مكدوداً محزوناً ، صفر اليدين وخالي الوفاض ، نظر إلى عياله نظرةً حزينة ومضى إلى حصيره المصنوع من قشِّ عرقه منتظراً ليغسل تلك الدموع بمرآة الحزن ، وليجعل من تلك النار برداً وسلاماً ، وعاود قراءة الآيات وترتيل الأوراد والأذكار الراكن إليها طوعاً رغم براهين الوحي وما جاء به الأنبياء ،يا وحشتي ووحدتي هذا ما تبقَّى لي في هذا الليل الذي يأكل من قرص وجهي فأطعمه وأنا جائع ..
مواطنٌ يحتاج إلى تلك الأدعية عندما يشتدُّ به الألم ويرفسه الجوع إلى زوايا غير مرئية ، وتعبث به روائح المارَّة وأحذية الأغنياء والأحزاب ..
مواطنٌ وُلد في كومة بؤس وفي مقبرة الأحزان ويلعب خلف الأضرحة وما بين الأموات والتراب ، ولم يكن يعرف أنَّ خلف سدول الليل أضواء مدينة وبيوت من مرآة ..
مواطنٌ كان يظن أنَّ بقعة الأشباح هي كل الأرض وأنَّ الأموات هم الأحياء...
مواطنٌ يشتاق إلى وطنٍ لكي تُصان فيه حياته وكرامته كي لا تزداد غربته غربة ، وفقره فقراً ، وقبره قبراً ...
يا وطني أنت صلاتي الأولى والأخيرة وبقية ما في وعاء القلب من دعاء .