د. محمد حبش: كلنا شركاء
ما الذي يدفع البطريرك الروسي اكليريوس للخروج من قداسه وبخوره وناره وشعاره الذي يردده كل يوم: مملكتي ليست من هذا العالم فأعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ثم ينصب نفسه نافخاً في كير الحرب، ويطلق على هذا الجهد الشرير المكلل بالأطماع القذرة للأوهام الامبراطورية وصف الحرب المقدسة!!
وحين يريد الكهنوت أن يعلن الحرب المقدسة فإنه لن يعدم أبداً دليله من النص الديني، فالنص الديني قرآنا وإنجيلاً وتوراة حمّال أوجه، والعبرة في القارئ الذي يمكنه أن يفهمه رسالة حب أو رسالة حرب…
في حوار فريد مع الأب العزيز الياس زحلاوي تحدثت في مطلع محاضرتي أن الأديان فيها نصوص تدعو للعنف وهذا أمر طبيعي في العالم القديم، ويجب أن ننظر إلى هذه النصوص في السياق التاريخاني، ويجب أن نرفض سياقها الذي يوحي بحلول دموية، فنصوص مثل: فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة وغير ذلك من النصوص موجودة في القرآن وهي تلقي بظلالها الثقيلة على السلم الاجتماعي، وتدعو لمواصلة القتال ضد المخالفين، ولكنها في التأويل الديني لا تحمل صفة المطلق الذي يطبق في كل زمان ومكان، بل هي مرتهنة بظروف التنويل وشروط التأويل، والدليل على هذا أن المسلمين عاشوا مع إخوتهم من الأديان في ظروف وئام وانسجام قروناً طويلة.
ولكن الصديق العزيز الذي أعجبته هذه الصراحة عقب بثقة وقال: إن الدكتور الحبش كان واضحاً وجريئاً حين نقل نصوص العنف من القرآن الكريم، ولكنني أؤكد لكم أنه ليس في الكتاب المقدس إلا المحبة والسلام!!
كان موقفاً صادماً بالنسبة لي، وعهدي بمحاوري أنه من أروع الناس خلقاً وإخلاصاً وسعياً في السلم والوحدة الوطنية، وذكرني موقفه هذا بموقف عمرو بن العاص من أبي موسى الأشعري، فقد كنت توقعت منه أن يدرك أننا نحمل هموماً مشتركة في مواجهة التعصب الذي يقف عند ظواهر النصوص ويكفر بالزمان والمكان، ولكن يبدو ان الصديق العزيز اختار موقفا مريحاً يحمّل فيه الآخر أوزار العنف، ويعزز قيم المسيحية الكريمة في المحبة والسلام.
من حسن الحظ أنني عثرت خلال دقائق على نسخة من الكتاب المقدس، بمساعدة الصديق العزيز عبده التشة الذي كان حاضرا للحوار، ومباشرة استعرضت النصوص التي أعرفها جيداً في الكتاب المقدس…
قلت لمحاوري: لقد قمت بواجبي في الإشارة الى بعض نصوص العنف في القرآن، واتكلت على ذاكرتكم الكريمة في نقل نظائرها من الإنجيل، فنحن شركاء في رسالة السلام ومواجهة العنف…..
ولكن يبدو أنكم نسيتم هذه النصوص التي أشعلت الحروب الصليبية الأولى، والتي دفعت المحاربين إلى حمل الصلبان فوق رؤوس الكتائب القاتلة، ومضت بها إلى بلاد العرب والمسلمين في حملات من الموت استمرت مائتي عام وفرضت نتائجها السوداء على شكل العيش في هذا العالم حتى يومنا هذا…\
ماذا كان يحمل فرسان الهيكل في حملاتهم المتتابعة نحو عواصم الإسلام في الشام وفلسطين ومصر؟ هل كانوا يقرؤون من نص طوبى لصانعي السلام فإنهم أبناء الله يدعون…؟ أم يرنمون الترتيلة الشهيرة: وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة؟؟ بالتأكيد لا… لقد كانوا يقرؤون من نصوص اخرى، وها أنا أجد لك بعضها في العهد الجديد:
وفي إنجيل لوقا 22/36 يقول السيد المسيح أيضاً: ومن ليس له مزود فليبع ثوبه وليشتر به سيفاً..
وفي إنجيل متى 10/34 لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً..
وفي انجيل لوقا 19/11 أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ. أَمَّا أَعْدَائِي، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي…
وهذه النصوص كلها من العهد الجديد ولو أردنا أن نتحول إلى العهد القديم فسنجد فيه تصوص الإبادة الكاملة لعمورية وسدوم والكنعانيين، وهي قصص لا تنتهي…. ويكفيك أن تقرأ واجب إبادة الشعوب السبعة من سفر التثنية إصحاح7 ..
“متى اتى بك الرب الهك الى الارض التي انت داخل اليها لتمتلكها و تطرد شعوبا كثيرة من امامك: الحثيين والجرجاشيين والاموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين سبع شعوب اكثر واعظم منك.
فاذا دفعهم الرب أمامك…… فلا تقطع لهم عهداً ولا تشفق عليهم…
وهكذا تفعلون بهم تهدمون مذابحهم و تكسرون انصابهم و تقطعون سواريهم و تحرقون تماثيلهم بالنار”
لست بحاجة لمن يفسر لي هذه النصوص، فلدي ألف وجه لصرف النص عن ظاهره، وتخصيصه بالزمان والمكان الذي ورد فيه، فإن القرآن قال عن التوراة فيها هدى ونور، وقال عن الإنجيل إنه فيه هدى ونور، ولكنني على يقين أن هناك جمهوراً طويلاً عريضاً من المسيحيين سيتبع ظاهر النص، ولن يذهب إلى تأويلات الكهنة، وهؤلاء الذين جاؤوا بدعوة بطرس الناسك وأوربان الثاني وفريدريك الثاني وبارباروسا وريتشارد قلب الأسد كانوا يحفظون هذه النصوص عن ظهر قلب، وكانت تلهمهم وتدفعهم للقدوم إلى أرض الكفار في الشام ومصر ليأتوا بأعداء المسيح ويذبحونهم قدام الرب…!!
لقد تعلمنا ألف تأويل لهذه النصوص المقدسة ولكن هذه هي الكنيسة الروسية اليوم برعاية مفتي النظام الروسي البطريرك كيريليوس تقوم بقراءة النصوص قراءة صليبية موتورة، وتضرب بعرض الحائط كل التأويلات التي أجهد فلاسفة السلام المسيحي أنفسهم بتأويلها، وتعلن أن الحرب الآن مقدسة وأن على رجال الكنيسة الأشاوس الذهاب إلى سوريا والضرب بيد من حديد على مدنها وقراها، وان المسيح ما جاء ليلقي سلاماً بل سيفاً، وأن أي بلدة سورية تؤوي ثائراً فإنها تباد عن بكرة أبيها، ورجال الجيش الروسي المتقون مأمورون أن يذهبوا إلى أرض الكفار وإحضار من يتيسر من هؤلاء الثوار ليذحوهم قدام الرب!!!
إنها مأساة أخرى أن يعود البطاركة لتكرار الدرس الصليبي نفسه الذي مارسه البابا أوربان الثاني وبطرس الناسك وأشعل الحرب في العالم بين الإسلام والمسيحية مائتي عام.
إنني آمل أن ينجح الوعي المسيحي في البراءة من هذه الفتاوى الماكرة التي ليس فيها إلا خدمة السياسة وتشويه الدين.