يعيش لبنان انتظاراً ثقيلاً، وتتمدّد أزماته سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وبيئياً، وذلك في انتظار تبَلور المشهد الدولي والإقليمي بنتيجة لقاء الرئيسين الأميركي باراك اوباما والروسي فلاديمير بوتين في نيويورك، والمحادثات العسكرية الأميركية ـ الروسية حول سوريا التي تتسارع في ميدانها التطورات بعد دخول موسكو الحرب على «داعش» فيها، وقرارِها بإشراك سفن الإنزال البحري للردّ السريع المنتشرة فى مياه المتوسط في العملية الجوية، لحماية منشآتها العسكرية فى طرطوس واللاذقية. لم تلُح في الأفق أمس أيّ بارقة أمل حولَ إمكان حدوث اختراق في أيّ من الملفات الداخلية العالقة، وفي مقدّمها العمل الحكومي، نتيجة تعثّر التسوية المتعلقة بالترقيات العسكرية بسبب «دسّ» البعض فيها بندَ المدير العام لقوى الأمن الداخلي، علماً أنّ جميع المعنيين لديهم النسخة الأصلية للتسوية ولم يَرد فيها موضوع قوى الأمن الداخلي.

وفيما رفض بري أمام زوّاره الحديث عن القضايا السياسية العالقة، كرّر القول: «لا أحد يحدّثني في أيّ موضوع إلّا بعد أن نعالج قضية النفايات».
وفي هذه الأثناء لم يسجَّل أيّ جديد على مستوى معالجة الخلاف الذي تجدّدَ قبل أيام بين بري ورئيس تكتل التغيير والإصلاح النائب ميشال عون.

وتخوّفت مصادر مطلعة من ارتفاع منسوب التوتر السياسي الداخلي وتأثّر أجواء جلسات الحوار الجديدة المقرّرة لثلاثة أيام بدءاً من الثلثاء المقبل، وذلك في حال شهدت جلسة لجنة الطاقة النيابية الاثنين المقبل سجالاً جديداً بين نواب «التغيير والإصلاح» وآخرين، على غرار ما حصل في جلستها الثلثاء الماضي.

عودة سلام

وعلمت «الجمهورية» أنّ رئيس الحكومة تمام سلام العائد من نيويورك عصر أمس هو في حيرة من أمره حيال عمل الحكومة، فإذا نظرَ الى الوضع الداخلي اللبناني يتّجه الى اتّخاذ القرار الكبير وقلبِ الطاولة على الجميع، لكنّه إذا استذكر ما سمعَه في نيويورك من دعم دولي للبنان وحِرص على استمرار الحكومة والتمسّك بها كهيئة شرعية محاورة للمجتمع الدولي، فإنّه يفضّل التريّث في اتخاذ قرار قلب الطاولة، علماً أنّ هذا الحرص الدولي لم يُبدِه محور دولي واحد، بل مختلف قيادات الدول الاوروبية والولايات المتحدة الاميركية وروسيا.

واستبعدت مصادر سلام توجيه دعوة فورية الى جلسة لمجلس الوزراء، وذلك في انتظار المشاورات الجارية والمفتوحة على شتّى الإحتمالات. وأكدت أنّ أيّ لقاء يتصل بالوضع الحكومي أو أيّ مسعى لاستئناف اعمال الحكومة كالمعتاد محتمل في أيّ لحظة.

لكنّها استبعدت ان تكون الإتصالات التمهيدية التي حصلت أثناء غيابه قد أثمرَت توجّهاً يشجّع على الدعوة الى جلسة لمجلس الوزراء هذا الأسبوع على الأقل في انتظار الإستحقاقات التي سيشهدها الأسبوع المقبل والتحضيرات الجارية لجلسات «هيئة الحوار الوطني» المتتالية المقررة لثلاثة أيام بدءاً من الثلثاء المقبل.

ونفت المصادر وجود أيّ موعد محدد للّقاء بين سلام ورئيس مجلس النواب نبيه بري، لكنّ هذا اللقاء وارد في أيّ لحظة، وهناك مشاورات جرت بينهما قبَيل زيارة نيويورك ولا بدّ من استكمالها.

وقد اطّلعَ سلام فور عودته على التقارير الأمنية التي تحدّثت عن التطورات المتلاحقة، وناقشَ مع وزير الزراعة أكرم شهيّب ما حقّقته اللجنة المكلّفة ملفّ النفايات ونتائج لقاءاته ووزير الداخلية نهاد المشنوق والخبراء وممثلي الهيئات المدنية والبيئية، وما آلت إليه المناقشات والخلاصات العملية لِما يمكن القيام به.

وقد حدّد سلام لشهيّب وفريقه موعداً لاجتماع موسّع يُعقد الأولى بعد ظهر اليوم في السراي الحكومي لمتابعة التطورات وتقرير الخطوات اللاحقة التي تضمن تطبيق قرارات مجلس الوزراء الخاصة بملف النفايات.

وأكد شهيب بعد اجتماع عَقده مع المشنوق أنّ «العمل جدّي 24/24، وبعدما عاد الرئيس تمّام سلام من نيويورك، سنجتمع معه أنا ووزير الداخلية غداً (اليوم) لوضعه في الصورة الكاملة والبحث في الخطوات العملية لتحقيق الخطة عملياً على الارض، وبالتالي للشروع في تنفيذ ما تعهّدنا به وعملنا عليه في هذه المرحلة الدقيقة»، وقال: «نحن نحفر بالإبرة في الصخر، وهذا موضوع معقّد صعب ودقيق، لكنّ هناك جهداً كاملاً ولن نيأس حتى نصل الى الحل».

«اللقاء التشاوري»

في غضون ذلك لم يطرأ أيّ تقدّم على جبهة الترقيات العسكرية، وعلمت «الجمهورية» أنّ «اللقاء التشاوري»، وبعد سقوط الصيغة المقترحة للترقيات، حاولَ في الساعات الماضية ان يقترح 3 صيغ للترقيات بغية تفعيل المؤسسات، إلّا أنّه لم يؤخَذ بها بسبب المطالبة بحصر الترقيات بثلاثة ضباط فقط ورفض سلوك طريق التراتبية والأقدمية.

ومن بين الصيغ المطروحة: تأخير سنّ تقاعد جميع العمداء الى حين انتخاب رئيس جديد للجمهورية، كون هذا الاقتراح لا يخلق بَلبلة داخل المؤسسة العسكرية ويحقّق المساواة ولا يعود هناك تخَطّ للتراتبية والأقدمية.

وكان«اللقاء التشاوري» الذي اجتمع أمس شدّد على «ضرورة إبعاد المؤسسة العسكرية عن سياسة المراضاة والمحاصصة، وتركِها للقيّمين عليها،
كونهم أهلها وأدرى بشعابها». وجدّد رفضه «أيّ تسوية على حساب هيكلية الجيش والتراتبية العسكرية فيه».

ولفتَ وزير الدفاع سمير مقبل الى أنّه «إذا اجتمعت الحكومة للبحث في هذا الموضوع، على وزير الدفاع طرح موضوع التعيينات والترقيات ويعود لمجلس الوزراء اتّخاذ القرار المناسب». وأعلن أنّ وزراء «اللقاء» سيصوّتون ضد الترقيات في مجلس الوزراء.

وقالت مصادر اللقاء لـ«الجمهورية» إنّ «هامش المناورة ضاقَ كثيراً أمام الراغبين بالتلاعب بالقوانين والأنظمة لتجييرها لمصلحة هذا الطرف او الشخص، وهو أمرٌ لم يعُد جائزاً ومِن الصعب إمراره.

وكشفت المصادر أنّ وزير الدفاع أكد للمجتمعين أنّ 13 عميداً على الأقل أبلغوا أنّهم سيكون لهم موقف ممّا هو مطروح من «مشاريع لقرارات استنسابية» قد يؤدّي اللجوء إليها الى المسّ بمبدأ تكافؤ الفرص والمساواة بين الضباط وتجاوز الأقدمية بقرارات خارجة عن قانون الدفاع والأنظمة المعمول بها والأعراف.

وكشفت المصادر عن اتصالات تنسيق بين وزراء اللقاء وآخرين، ومن بينهم وزيران على الأقل أكدوا التزامهم الموقفَ عينَه من ملف الترقيات والتعيينات العسكرية، وهو ما يجعل عشرة وزراء في موقف واحد في مواجهة ايّ طرح يسيء الى «هيكلية الجيش والتراتبية العسكرية فيه».

قزّي

وقال وزير العمل سجعان قزي لـ»الجمهورية: «نتمنّى على الرئيس سلام الذي تحمّلَ كثيراً أن يدعو سريعاً الى جلسة لمجلس الوزراء لاتخاذ قرار بتنفيذ الخطة التي وضَعها الوزير أكرم شهيب والبدء فوراً بجمع النفايات من الشوارع والمناطق، وإذا لمسَ رفضاً لهذا الامر يُفترض ان يستخلص العبَر، ونحن معه في ذلك، إذ لا يجوز ان يبقى الشعب يحَمّل الحكومة مجتمعةً مسؤولية التقصير والعجز، فيما الحكومة تتعرّض لمشروع تعطيل ولا يسمح لها باستعمال صلاحياتها لا السياسية ولا الأمنية لتلبية مطالب الناس ورفعِ النفايات على الأقل، وهذا ما حرصنا على الإشارة إليه في بيان «اللقاء التشاوري» حين قلنا إنّ عرقلة عمل الحكومة ستؤدي إلى إسقاطها وتحويلها مجتمعةً حكومة تصريف أعمال».

درباس

ورفض الوزير رشيد درباس تحديد موقفه من التسوية، وقال لـ«الجمهورية»: «لست مشاركاً في الطبخة، وأسمع بها كما يسمع المواطنون، ولن أقول إنّني معها أو ضدها قبل أن أطّلع على تفاصيلها وعلى ضمانات العمل الحكومي في ما بعد». وأضاف: «لا أرغب بالاصطفاف، لكنّني لن أقدِم على ما يخالف الاصول الدستورية، وعلى هذا فإنني أنتظر شكلها، ربّما كانت مقنِعة فأسير بها وإنْ لم تكن كذلك فسأعترض عليها».

من جهة ثانية، شدّد درباس على «أنّ الدعم الدولي الذي تلقّاه لبنان في نيويورك يجب ان يُترجم مساعدات ملموسة، لأنّ هذا الدعم الآن ليس مبعثه التعاطف مع لبنان فحسب بل مبعثه الإحساس بالأخطار الداهمة التي بدأت تتسرّب الى اوروبا، وربّما إلى أنحاء العالم، وعليه، يجب ان يكون لبنان حاضراً ليقدّم اقتراحات ملموسة ويكون جاهزاً لقبول المساعدات، وهذا يقتضي ايضاً ان يكون مجلس الوزراء في حالة جهوزية وانعقاد دائمين وليس التعطيل الذي يفوّت علينا فرصَ المساعدة، خصوصاً أنّ درجة النموّ باتت تحت الصفر».

شهيّب

وكان شهيّب قال إنّه «لن يكون هناك أيّ ملف سياسي أو إداري أو تعيينات، إلّا بعد الانتهاء من ملف النفايات». وذكر أنّ بري «كان له موقف واضح في الصحافة اليوم (أمس)، وهذا ما أكده وزير المال علي حسن خليل في اتصال معي، أكّد فيه أنه لن يكون هناك أيّ ملف، لا تعيينات ولا جلسة ولا عمل لمجلس الوزراء قبل معالجة هذا الملف بحلّ كامل وجذري».

«الوفاء للمقاومة»

في هذا الوقت، حمّلت كتلة «الوفاء للمقاومة» تيار»المستقبل» مسؤولية الشلل الحاصل، وقالت «إنّ ارتهان حزب «المستقبل» لجهات خارجية وفي طليعتها النظام السعودي وتحوّلَه وكيلاً علنياً لارتكابات هذا النظام وأخطائه في إطار ولائه لأولياء نعمته يبقي قراره معلّقًا على مصالح هذا النظام وحروبه الخاسرة، وهذا ما يعطّل الحلول للأزمات الداخلية ويُجهض المساعي التي تُبذَل على أكثر من صعيد، ولم تعُد تجدي لعبته في تبادل الأدوار بين فريق يطرح مبادرات للخروج من الأزمة الحكومية الحالية وفريق آخر يعطّل».

واعتبرَت «أنّ محاولة مصادرةِ موقع الرئاسة ورهن مصيرها لحساب جهات خارجية والتنكّر للالتزامات والعهود، والإصرار على منع وصول الشخصية المؤهّلة سياسياً ووطنياً هو إمعان في ضرب الشراكة، وتقويض مؤسسات الدولة».

مدارس ومستشفيات

على المستوى الاقتصادي والحياتي، برز أمس تطوران لافتان، تمثّلَ الأوّل بالتحضيرات التي بدأتها هيئة التنسيق النقابية للنزول الى الشارع للمطالبة بسلسلة الرتب والرواتب. والثاني تلويح المستشفيات مجدّداً بوقف خدماتها للمرضى بسبب تراكم مستحقاتها لدى الدولة والجهات الضامنة.

وعلى مستوى «السلسلة»، ستلتحق هيئة التنسيق بالحراك الشعبي وتنزل الى الشارع لإعادة إحياء مطلبها المزمن بإقرار السلسلة. وتُعِدّ الهيئة، حسب مصادرها، لتصعيدٍ على كلّ المستويات، يشمل تعطيلَ العام الدراسي، بعدما كانت قد وفَت بوعدها في العام الماضي ولم تعطّل السنة الدراسية، لكنّ ملف «السلسلة» ظلّ نائماً في الأدراج، ولم يتمّ تحريكه.

وبالتالي، قالت الهيئة إنها أظهرَت حسن النية ولم تقابلها السلطة بالمثل، لذا قرّرت التصعيد مجدداً من خلال التهديد بتعطيل السنة الدراسية 2015-2016. وعلى صعيد المستشفيات، كُشف أمس أنّ المستحقات المتراكمة لها قاربَت الـ 900 مليون دولار.

وهدّد نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة سليمان هارون بوقف استقبال المرضى، بسبب عجز بعضها عن الصمود والاستمرار أكثر. وكشف أنه «نتيجة التعثّر الحكومي والخلافات العقيمة بين أهل السياسة، لم يتمّ حتى تاريخه إنجاز العقود بين وزارة الصحة والمستشفيات على رغم إقرار مجلس الوزراء في 9/7/2015 مرسوم توزيع الاعتمادات المخصّصة لها وفق ما حوّله وزير الصحة إلى مجلس الوزراء، ما حال دون تسديد ما استحقّ لها نتيجة تطبيب المرضى طوال سنة 2015.