غداً يوم آخر. فما بعد الجولة الأولى من الغارات الروسية الاولى من نوعها لا في سوريا وحسب، بل في منطقة الشرق الاوسط منذ الحرب الأفغانية في القرن الماضي، تكون الحرب في سوريا، وعليها، قد دخلت مسارا جديدا، تماما مثلما تدخل المنطقة برمّتها فصلا جديدا، مع احتمالات عدة، تتراوح ما بين التفاؤل الكامل، أو نقيضه التشاؤمي.
هذا في المشهد العام. في التفاصيل التي لا تقل أهمية ان روسيا لم تنتظر طويلا بعد خطاب الرئيس فلاديمير بوتين في نيويورك، وبادرت، بعد رسالة الرئاسة السورية التي تطلب الإسناد الجوي، الى تنفيذ سلسلة من الغارات شملت محافظات حمص واللاذقية وحماه، وتنوعت أهدافها، ولم تستثن فصيلا، من تنظيم «داعش» الى «جبهة النصرة» الى «حركة أحرار الشام» وصولا حتى الى فصائل تابعة لما يسمى «جيش الفتح» و «الجيش الحر»، بما يعنيه ذلك من رسالة روسية صارمة ان ولاءات وانتماءات هذه الفصائل إقليمياً، لا تعني موسكو شيئا.
وفي التفصيل ايضا، ان الروس تعمدوا إبلاغ الجميع (باستثناء فرنسا على ما يبدو) بما في ذلك الولايات المتحدة، ان سماء سوريا يجب أن تُخلى من الطائرات خلال ساعة. أما كيف تبلغ الاميركيون بالغارات الروسية، فهي رسالة اخرى لا تقل أهمية: عبر جنرال روسي يعمل في غرفة العمليات العسكرية المشتركة المقامة في بغداد (تضم العراق وايران وسوريا وروسيا)، توجه الى السفارة الاميركية في العاصمة العراقية وأبلغهم «شفهيا» بقرار الكرملين بدء الغارات.
ولم يعترض أحد (باستثناء الاحتجاج الفرنسي المضحك). حتى ان الاميركيين بدوا مرتبكين في التعاطي مع عاصفة الغارات الروسية المفاجئة في سرعتها واتساعها. فتارة قالوا إن الغارات تنسجم مع تفاهم بوتين ونظيره الاميركي باراك اوباما قبل يومين بالقضاء على تنظيم «داعش»، ثم قالوا إن الروس لم ينتظروا التنسيق العسكري معنا، ليكتمل مشهد الارتباك في ظهور وزير الخارجية الاميركي جون كيري الى جانب نظيره الروسي سيرغي لافروف، لا للاعتراض على الهجوم الروسي، بل للتشديد على أهمية التنسيق والتفاهم بين موسكو وواشنطن، أقله على الصعيد العسكري، مع تأكيد أهمية الحفاظ على وحدة الاراضي السورية.
لكن العاصفة الروسية التي فتحت معادلات جديدة اقليميا ودوليا، والتي وضعتها موسكو مرارا في اطار دعم مؤسسات الدولة السورية والجيش السوري ومكافحة الارهاب المتمدد في المنطقة في ظل فشل «التحالف» الذي أعلنته الولايات المتحدة قبل عام ولم يساهم في دحر التنظيمات التكفيرية في المنطقة برمّتها، بل في تناميها، تطرح، وستطرح في الايام المقبلة، العديد من الاسئلة والهواجس.
ماذا بعد الغارات الجوية، خصوصا ان الطلب الرئاسي السوري لم يتضمن دعوة لعمل بري، وبوتين كررها أمس ان لا نية للعمل على الارض مباشرة، وهناك من يذكّر بأن الحملة الجوية التي شنها «التحالف» الاميركي في العراق وسوريا لم تحقق نتائج جيدة؟ كما ان هناك من يذكّر بأن للحملة الروسية عناصر أكثر فاعلية لأنها تستند الى اعتماد على وجود الجيش السوري على الارض بكثافة، وهو كما اكد بوتين خلال الايام الماضية، الجهة الوحيدة المؤهلة والقادرة على خوض المعركة ضد الارهاب. إلا ان الاجابة عن التساؤل ستنتظر ما ستحمله الغارات الجوية من نتائج خلال الايام وربما الاسابيع المقبلة.
ولا تتوقف الاسئلة هنا: هل هي بداية نهاية للحرب السورية؟ ام انها بداية تصعيد جديد فيها؟ هل هي ضوء في نهاية نفق السنوات الخمس المظلمة؟ وهناك سؤال آخر سيظل مطروحا: ماذا يريد الروس فعليا؟ وهل هو تدحرج اقليمي نحو تصعيد اكبر، ام انه مؤشر على بلورة تفاهمات، سورية، اقليمية ودولية، ربما حان قطافها؟ ومن سيخرج رابحا في المشهد الجديد الذي اقتحمه الروس بقوة؟ وما هي لائحة الخاسرين عربيا واقليميا بعد اكثر من اربعة اعوام من الرهانات على إسقاط دمشق، من دون جدوى، إلا تضخيم المأساة السورية وخسارات السوريين شعبا ودولة؟
وتتوالى الاسئلة: هل تفتح الغارات الطريق أمام «جنيف 3» اكثر واقعية؟ ام ان الغارات تمثل عمليا إجهاضا لخيارات مساري «الجنيفين»؟ وهل يمثّل الاقتحام الروسي انقلابا على خيار «المناطق الآمنة» في الشمال، مع التذكير بأن الضربات الجوية أمس استهدفت في من استهدفت، «حركة أحرار الشام» المرتبطة بقوة بالاستخبارات التركية، وفصائل في «جيش الفتح» الممتد في ولاءاته الى الأتراك وبعض الخليجيين؟
ومهما يكن، فإن الغارات الروسية التي تجددت في وقت متأخر من ليل امس، أشاعت الكثير من اجواء التفاؤل بين شريحة كبيرة من السوريين. تفاؤل سيظل رهينة في الايام المقبلة، لما ستتمخض عنه الضربات الجوية لمقاتلات «السوخوي» المتطورة، على صعيد مئات الجبهات السورية الممتدة على مساحة هذا الوطن الممزق.
الغارات
وأعلنت وزارة الدفاع الروسية، في بيان، أن الطيران الروسي قام بعشرين طلعة جوية، وأصاب ثمانية أهداف لتنظيم «داعش» في سوريا، مدمراً خاصة مركز قيادة للتنظيم.
وذكرت الوزارة «هاجمنا ثمانية أهداف، وقد أصيبت جميعها. إن الأهداف، وخاصة مركز قيادة لإرهابيي تنظيم الدولة الإسلامية، دُمّرت تماما».
وقال المتحدث باسم الوزارة أيغور كوناشنكوف انه تم تسجيل «20 طلعة» أمس. وأضاف «أريد أن أوضح أن كل هذه الضربات جرت بعد القيام بعمليات استطلاع جوية بناءً على معلومات استخباراتية قدمتها السلطات السورية».
وكان كوناشنكوف قد أشار إلى أن «وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أبلغ الشركاء في منظمة معاهدة الأمن الجماعي بماهية الأهداف التي تعكف الطائرات الحربية الروسية على تدميرها، وأنها تستهدف المعدات العسكرية ونقاط الاتصال والعربات، إضافة إلى مستودعات الذخيرة وخزانات الوقود التابعة للإرهابيين».
ووزعت وزارة الدفاع الروسية شريط فيديو حول الغارات الجوية، تظهر فيه ثلاثة مواقع وقد أصيبت، وهي تضم «مخازن ذخائر وأسلحة وعتاداً عسكرياً».
وقال مصدر أمني سوري رفيع المستوى، لوكالة «فرانس برس»: «شنت طائرات روسية وسورية ضربات جوية عدة، استهدفت مواقع للإرهابيين في محافظتي حماه وحمص»، موضحاً أن الضربات الجوية التي استهدفت مناطق في محافظة اللاذقية شنها الطيران السوري بمساعدة من الطيران الروسي في عملية «تحديد الأهداف».
ونقل التلفزيون السوري عن مصدر عسكري انه «تنفيذاً للاتفاق بين سوريا وروسيا لمواجهة الإرهاب الدولي، والقضاء على تنظيم داعش وبالتعاون مع القوى الجوية، نفذ الطيران الروسي عدة ضربات جوية استهدفت أوكار إرهابيي داعش». وأشار إلى أن الغارات استهدفت مناطق الرستن وتلبيسة والزعفرانة ودير فول في محافظة حمص، ومناطق تلول الحمر وعيدون ومحيط السلمية في محافظة حماه.
وقال مدير «المرصد السوري لحقوق الإنسان» رامي عبد الرحمن إن «الضربات الروسية استهدفت في محافظة حمص مقار تابعة لجبهة النصرة وحركة أحرار الشام الإسلامية، المتحالفة معها في إطار «جيش الفتح»، بالإضافة إلى فصائل أخرى مقاتلة».
وفي محافظة حماه، قال عبد الرحمن إن القصف استهدف مواقع لفصائل إسلامية و «النصرة» بالإضافة إلى فصائل أخرى، تُصنّف على أنها «معتدلة»، مشيراً إلى أن الغارات استهدفت في بلدة اللطامنة مستودع أسلحة تابعاً لـ «جيش العزة»، التابع لـ «الجيش الحر»، وهو فصيل يحظى بدعم عربي وأميركي.
بوتين
وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال اجتماع للحكومة الروسية في موسكو، إن «تنظيم داعش الإرهابي أعلن روسيا عدواً له منذ فترة طويلة». وأضاف ان «آلاف المسلحين من مختلف الدول يقاتلون في صفوف الإرهابيين»، محذراً من أنهم «إذا نجحوا في سوريا فإنهم سيعودون حتماً إلى بلدانهم، وسيأتون إلى روسيا». وأكد أن «الطريق الصحيح الوحيد لمكافحة الإرهاب الدولي في سوريا يتمثل في القيام بخطوات وقائية، وتصفية المسلحين والإرهابيين في المناطق التي قد سيطروا عليها، من دون أن ننتظر قدومهم إلى بيوتنا».
وتابع «نحن بالطبع لا ننوي أن نغرس رأسنا في النزاع السوري. وسننفذ خطواتنا في الأطر المحددة بدقة. أولاً، سندعم الجيش السوري فقط في كفاحه الشرعي للتنظيمات الإرهابية تحديداً، وثانيا سيكون هذا الدعم جوياً فقط من دون مشاركة في عمليات برية، وثالثاً، مثل هذا الدعم سيقتصر من ناحية الزمن على فترة قيام الجيش السوري بإجراء عمليات هجومية».
وأوضح بوتين، الذي تلقى ضوءاً أخضر من مجلس الاتحاد الروسي لضربات جوية بناءً لطلب الرئيس بشار الأسد، أن «موسكو أبلغت جميع شركائها الدوليين عن خطتها وخطواتها في سوريا»، داعيا «كل الدول المعنية إلى الانضمام لعمل المركز التنسيقي في بغداد». وقال «روسيا كانت دائماً تؤيد ولا تزال تؤيد مكافحة الإرهاب الدولي»، مؤكدا أن «ذلك يجب أن يجري وفقاً للقانون الدولي، وفي إطار قرارات يتخذها مجلس الأمن الدولي في هذه الحالات، أو بطلب من جهة تحتاج إلى المساعدات العسكرية».
واعتبر أن «السبيل الوحيد لخروج سوريا من أزمتها هو الإصلاح السياسي والحوار بين كل قوى البلد السلمية»، مشيراً إلى أنه يرى أن الأسد مستعد للإصلاح والحوار. وعبّر عن أمله أن يتخذ الرئيس السوري «موقفا فاعلا ومرنا»، ويكون مستعدا لحلول يرتضيها بلده وشعبه.
وقال المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إن الحملة الجوية الروسية في سوريا لن تمتد إلى العراق، وإن الطائرات الروسية لا تستخدم المجال الجوي العراقي في تنفيذ الهجمات داخل سوريا. وأضاف أن العراق لم يطلب من موسكو شن ضربات جوية ضد المتشددين الإسلاميين على الأراضي العراقية.
واشنطن
وكان بارزاً تبليغ موسكو واشنطن بالغارات عبر المركز الاستخباري الموجود في بغداد. وأوضح مسؤول عسكري أميركي أن جنرالاً روسياً يعمل في مركز التنسيق لمكافحة الإرهاب الذي أنشأته في بغداد، سوريا وإيران والعراق وروسيا، زار السفارة الأميركية وأبلغنا شفهيا بالضربة الوشيكة، فيما أشار آخر إلى أن موسكو منحت واشنطن إشعارا قبل ساعة من الضربات، وهي طلبت من الطائرات الأميركية وقف التحليق فوق سوريا.
وأعلن نائب وزير الدفاع الأميركي روبرت وورك أن الولايات المتحدة قلقة من أن روسيا شنت ضربات جوية في سوريا من دون محادثات عسكرية مسبقة مع واشنطن، واصفاً التحركات الروسية بأنها «عدوانية». وقال «نحن قلقون مما حدث هذا الصباح (امس). ما تم الاتفاق عليه بين الرئيسين هو أن جيشينا سيتحادثان حتى لا يقع اشتباك في العمليات»، مضيفاً «لا أعتقد أن هذا إخفاق.. أعتقد أنه عمل عدواني من جانب روسيا حاليا قبل مناقشاتنا بين جيشينا».
وحاول البيت الأبيض تلطيف الأجواء مع روسيا، بعد انتقاد مسؤولين أميركيين للغارات واعتبارهم أنها لم تستهدف مواقع لـ «داعش» بل مواقع للمعارضة السورية. وقال المتحدث باسم البيت الأبيض جوش ارنست «من المبكر بالنسبة لي أن أقول ما هي المواقع التي استهدفوها، وما هي الأهداف التي ضربوها».
وقال وزير الدفاع الأميركي اشتون كارتر انه «من المرجح» ألا تكون هناك قوات لتنظيم «داعش» في المناطق التي استهدفتها الغارات الروسية، معتبراً أن مقاربة روسيا في سوريا «مصيرها الفشل». وقال إن «الإستراتيجية الروسية عندما لا تلحظ وجود عملية انتقالية سياسية ورحيل بشار الأسد عن السلطة إنما تؤدي إلى صب الزيت على النار».
وأعلن وزير الخارجية الأميركي جون كيري، أمام مجلس الأمن، أن الولايات المتحدة لن تعارض الضربات الجوية الروسية في سوريا إذا كان الهدف «الحقيقي» منها هزيمة «داعش».
وقال كيري، الذي اتصل بنظيره الروسي سيرغي لافروف، «إذا كانت أفعال روسيا في الآونة الأخيرة وتلك التي تجري الآن تعبيراً عن التزام حقيقي بهزيمة ذلك التنظيم، فإننا مستعدون للترحيب بهذه الجهود وإيجاد سبيل لمنع التعارض بين عملياتنا ومن ثم مضاعفة الضغوط العسكرية على داعش والجماعات المتحالفة معه»، مشيراً إلى أن مثل هذه المحادثات قد تحدث قريبا هذا الأسبوع.
وأعلن لافروف، الذي كان يترأس جلسة لمجلس الأمن بعنوان «دعم السلام في العالم.. تسوية النزاعات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومواجهة التهديد الإرهابي»، أن روسيا مستعدة لفتح «قنوات اتصال مستمرة» مع التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة.
وأضاف كيري «ستستمر الولايات المتحدة والتحالف في عملياتنا الجوية المتواصلة. وقد نفذنا عددا من الضربات على أهداف تابعة لداعش في سوريا خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية، منها ما كان قبل ساعة فحسب» في إشارة إلى غارة قرب حلب.
وتابع «أوضحنا أننا سنشعر بالقلق البالغ إذا ضربت روسيا مناطق ليست فيها أهداف لداعش والقاعدة». واعتبر أن «أي ضربات من هذا النوع ستضع علامات استفهام حول نيات روسيا الحقيقية وهل هي القتال ضد داعش أم حماية نظام الأسد». وتابع «يجب ألا نخلط ولن نخلط بين قتالنا داعش ومساندة الأسد. وداعش نفسه لا يمكن هزيمته ما دام بشار الأسد رئيسا لسوريا».
وكان لافروف قد دعا، خلال جلسة مجلس الأمن، إلى استغلال إمكانيات هيئات الأمم المتحدة، مثل لجنة الأركان العسكرية، عند تخطيط العمليات العسكرية المشتركة ضد «داعش».
وقال «نرى أنه من الضروري البدء من التعريف الواضح للأولويات. وهناك فهم واضح بأن الخطر الرئيسي هو العدوان الإرهابي الذي يتجسد في أعمال داعش. وبحسب رؤيتنا، يجب أن نتبع ذلك بخطوات عملية في ثلاثة مجالات رئيسية». وأكد أنه لا ينبغي محاربة التطرف الدولي من دون الحصول على موافقة من سلطات البلدان المعنية.
وقال «من الضروري توفير مواكبة خارجية متزنة وشاملة للعملية السياسية بمشاركة روسيا والولايات المتحدة والسعودية وإيران وتركيا ومصر والإمارات والأردن وقطر. ونعتبر أنه يجب على الاتحاد الأوروبي أن يلعب دورا مفيدا».
وسارعت باريس للتحفظ على الضربات الروسية إذا لم تكن تستهدف «داعش»، مشيرة الى ان موسكو لم تبلغها مسبقا بالضربات، فيما اتهم وزير الخارجية السوري وليد المعلم باريس «بدعم الإرهاب». ورحب وزير خارجية بريطانيا فيليب هاموند بعزم روسيا استخدام القوة في مواجهة «داعش»، لكنه قال إن على موسكو أن تتأكد من أن ضرباتها الجوية استهدفت «الدولة الإسلامية» والجماعات المرتبطة بتنظيم «القاعدة» لا مقاتلي المعارضة السورية.