عاش عدنان منصور في غضون أسبوع واحد تجربتين غنيتين وفريدتين في آن معاً: بعد أن اختبر ديبلوماسية الدول، مترئساً اجتماعين عربيين مهمين في جامعة الدول العربية في القاهرة، الأول، مع وزراء 27 دولة أوروبية، والثاني، على المستوى العربي، حطّ في غزّة مع وفد عربي مقارباً لغة الميدان الساخنة، بعيداً من القفازات الديبلوماسية.
بعد أسبوع على عودته، ما يزال وزير الخارجية سابحاً في فضاء غزة، كيف لا وهو أول مسؤول رسمي لبناني تطأ قدماه أرض «الحبيبة» فلسطين مذ أن دنسها الاحتلال في العام 1948. سبقه الحلم إليها مذ طفولته حتى استقلّ الطائرة من القاهرة الى «العريش» المصرية، حيث انتظره مع كوكبة من الوزراء العرب موكب أقلهم الى رفح ومنها الى غزّة الجريحة في عز معركتها وصمودها.
«إنه شعور من يطأ مكاناً جديداً يحدوه فضول اكتشاف كلّ ما تقع عليه عيناه: المحال التجارية، المنازل المدمرة، وجوه ناس خرجوا الى عراء القصف الإسرائيلي لاستقبالنا. أطفال وشباب وكهول استقبلونا، في عيونهم نظرات ملؤها التحدّي والتفاؤل بالمستقبل، لا خوف، بل عنفوان المؤمن بأن العدوان قادر على تدمير المنشآت لكن الشعب راسخ رغماً من أنف الدمار».
يتابع منصور سرد تجربته «الغزّاوية»، من مكتبه في «قصر بسترس» وكأنه عائد من فلسطين للتّو: «كانت المرّة الأولى التي تطأ فيها قدماي جزءاً من أرض فلسطين، كنت بغاية الشوق لمعاينة حال الشعب الفلسطيني واستبساله، وجرفني توق لرؤية وجوه تدفع ثمن الاحتلال منذ عقود، في ما أعين العالم مغمضة لا تراها».
تأثر منصور بما رآه في مستشفى «الشفاء»، وعندما تحدث الى أهالي الشهداء، وأثناء تقديم التعازي لعائلة «الدلو» التي فقدت 10 أشخاص دفعة واحدة. يقول «اختلجت فيّ أحاسيس متفجرة. غادرت ديبلوماسيتي وتساءلت بمرارة عن الضمير العالمي للدول التي تطالب بالديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان، ماذا فعلت للشعب الفلسطيني بعد 64 عاماً؟ ماذا حققت لشعب ترك فريسة للتسويات السياسية ورهينة للأمر الواقع الذي تحاول إسرائيل فرضه عليه».
تسأل «السفير» وزير الخارجية: لو عدت من غزة قبل ترؤسك اجتماعي القاهرة ماذا كان ليتغير؟ يجيب منصور: «لكان موقفي أشدّ صلابة بالتأكيد. موقفنا في القاهرة هو الحدّ الأدنى مما قد يبادر اليه العرب».
في الاجتماع الأوروبي ـ العربي، طالب منصور الشريك الأوروبي «المساعدة في تحقيق السلام في المنطقة وتأمين الدولة الفلسطينية للشعب الفلسطيني وتطبيق المبادرات والاتفاقيات الموقعة»، قال إنه لا يجوز أن تنتهك إسرائيل القرارات الدولية وأن تكافأ بحوافز تشجيعية من الأوروبيين وغيرهم، كما حصل بعد حرب غزة الأولى في العام 2008(بعد هذا التاريخ أعطيت إسرائيل تسهيلات لصادراتها للاتحاد الأوروبي). يقول منصور «بوجوب وقف الصادرات الاسرائيلية وعدم استيراد البضائع المنتجة على أراض فلسطينية محتلة».
من يسمع منصور متحدثاً عن العقوبات على إسرائيل لا يتردد في السؤال: على من تقرأ مزاميرك يا منصور؟
هنا يسرد الوزير العائد من غزّة واقعة من الاجتماع الوزاري العربي الأوروبي المشترك: ثمة مؤتمر كان سينعقد في الشهر المقبل في هلسنكي - فنلندا وألغي فجأة كرمى لمصلحة إسرئيل وكان سيتناول موضوع «إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية وأسلحة الدّمار الشامل في الشرق الأوسط».
يقول: «أعربت دول الشرق الأوسط كلها، بما فيها لبنان وأيضا إيران عن استعدادها للحضور، وكانت إسرائيل البلد الوحيد الذي رفض حضور المؤتمر، أمام هذا المشهد ولدى مقاربة بعض الدول للملف النووي الإيراني - وإيران موقعة على معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية - لم تجرؤ أي دولة أوروبية على ذكر دولة إسرائيل في أي بند من بنود البيان العربي - الأوروبي الذي صدر في القاهرة، ولم تجرؤ أي دولة على مطالبة إسرائيل بالاشتراك في مؤتمر هلسنكي، حتى أنهم رفضوا إدراج كلمة إسرائيل في البيان الختامي وطلبوا من كل الدول الحضور كحل وسطي».
لم تنته رواية منصور: «عطّل المؤتمر المذكور في هلسنكي وأبلغنا منذ يومين أن دول المنطقة برمّتها، باستثناء إسرائيل، أبدت استعدادها للمشاركة في المؤتمر وطالبت بعقده في موعده طبقاً لما تمّ الاتفاق عليه في مؤتمر مراجعة منع انتشار الأسلحة النووية في العام 2010، لكن المؤتمر تعطل، علماً أن الدعوة كانت موجهة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وروسيا والصين، ويبدو أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ليس لديهما الرغبة بعقده فألغي».
نصر غزّة
يجزم منصور أن فلسطين ستفوز بمركز عضو مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة، «إلا أنه لا يمكن التكهّن بردود الفعل، إذ ثمة تحذيرات من إمكان فرض عقوبات على الفلسطينيين أو إعاقة تسهيل نقل الرساميل العائدة للفلسطينيين من خلال الضرائب التي تأخذها إسرائيل أو وقف المساعدات».
ينتقل منصور من النصر الديبلوماسي الى النصر الفلسطيني الميداني، قائلا: «ما جرى في غزة قلب المعادلات. ليس هنالك من قوة تستطيع اليوم أن تحسم الأمور لصالحها، وأعني بها إسرائيل، إن زمن فرض الأمر الواقع وإنهاء الأمور بالطريقة التي تريدها إسرائيل انتهى، توازن الرعب موجود والمستقبل لنوعية المقاتل الفلسطيني والفارق واضح بين حرب 2008 -2009 وحرب 2012، وقناعتي أن ما جرى في غزة يؤسس لمرحلة جديدة في الصراع العربي الاسرائيلي عنوانها توازن الرعب وعدم استفراد إسرائيل بالعمليات العسكرية. نعم، لم تعد إسرائيل هي التي تتحكم باللعبة العسكرية في المنطقة».
وعمّا إذا كان النجاح الديبلوماسي العربي يوازي نجاح المقاومة يجيب منصور: «الميدان أثر بشكل كبير، والدليل وقف إطلاق النار وإعطاء الفلسطينيين حقوقاً لم تكن قبلاً، وعوض أن يصطاد الصيادون في حدود 3 أميال داخل المياه «الغزاوية» بات يحق لهم الصيد بـ6 أميال، وصارت توجد إمكانية للمزارعين لتفقد مزارعهم، وينبغي العمل اليوم على فك الحصار كلياً وفتح المعابر الى غزة من جهة مصر».
وعن رأيه بتهديدات الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله الأخيرة ضد إسرائيل وإمكان انعكاس ذلك على لبنان لجهة استدعاء هجوم إسرائيلي عليه، يقول منصور: «لا، لا يستدعي هذا الكلام هجوماً، فالقادة الإسرائيليون يوجهون التهديدات يومياً الى لبنان والى المنطقة برمتها وعندما يقول السيد نصرالله أنه إذا تعرض لبنان لعدوان من جانب إسرائيل لن يقف مكتوف الأيدي، فإن هذا أمر طبيعي».
خطر تقسيم سوريا
يصف وزير الخارجية الوضع في سوريا بأنه «خطير جداً»، يضيف: «كلّ يوم يمرّ نرى فيه أن المشهد مظلم، ويتعاظم الخوف الكبير على وحدة سوريا، لا بل الخوف الكبير على المنطقة ككلّ. الخوف يتصاعد وما يجري هو تهديد جدي جدّاً لوحدة سوريا نظراً الى السلاح المتداول في الداخل وتدخل العالم المكشوف والمواقف المؤيدة لطرف دون آخر، وهذا كله لن يخدم وحدة سوريا».
وعن مهمة الموفد العربي والدولي الأخضر الإبراهيمي، يقول منصور «الإبراهيمي سيقدم تصوراً الى مجلس الأمن الدولي اليوم، ولا شك بأنه سياسي مخضرم ولكنه لا يستطيع إنجاز شيء إذا لم يلق تجاوباً من جميع الأطراف، حتى لو طرح الموضوع من جوانبه المختلفة». ويؤكد ان لا بديل لخطة الابراهيمي.
مارلين خليفة السفير