في الأشهر الأخيرة من كلّ عام، تختار وزارة الثقافة اللبنانية فيلماً ليمثل لبنان في حفل توزيع جوائز الـ"أوسكار". هذا ما تفعله ايضاً كلّ البلدان خارج الولايات المتحدة التي تريد أن ترسل أفلاماً تعتبرها أفضل ما أنتجته خلال العام المنصرم. في الدورة الماضية، بلغ عدد الأفلام المبعوثة 83. من الأفلام المُرسلة يشكّل الأكاديميون عبر التصويت، لائحة من تسعة، ثم تُختزل الى خمسة في المرحلة الأخيرة. فقط هذه الأفلام الخمسة تكون مرشحة رسمياً لـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي، الجائزة التي تُمنح منذ 1957. أي فيلم لا يصل الى لائحة الأفلام الخمسة لا يمكن اعتباره مرشحاً لـ"الأوسكار". لا تصدِّقوا وسائل الاعلام العربية التي لا تتحرى الدقة بل تنتهج عناوين ملغومة كما درجت العادة عند التطرق الى الأفلام التي تذهب الى مهرجان كانّ. نقرأ مثلاً ان الفيلم الفلاني يشارك في كانّ، في حين يكون الفيلم مشاركاً في سوق كانّ المفتوحة أمام الجميع، حيث كلّ طرف يمكنه المشاركة فيها مقابل بدل مادي.
الإسبوع الماضي، رشّحت وزارة الثقافة اللبنانية "وينن" لـ"الأوسكار"، فيلم تولى اخراجه سبعة سينمائيين درسوا الاخراج في جامعة سيدة اللويزة: طارق قرقماز، زينة مكّي، جاد بيروتي، كريستال أغنادياس، سليم الهبر، ماريا عبد الكريم وناجي بشارة. شارك في كتابة السيناريو الممثل جورج خباز وديامان أبو عبود ونيكولا خباز. تتوزع مدة الفيلم الزمنية على ستة محاور حكائية، ست نساء ينتظرن رجلاً اختفى فجأة من حياتهن خلال الحرب الأهلية. هذا كله يحدث عشية الدعوة الى تظاهرة لمعرفة مصير الأحباء المفقودين الذين يبلغ عددهم في لبنان 18 ألفاً. شارك الفيلم في مجموعة مهرجانات (دبي، دخلا، الاسكندرية، سيدني، مالمو)، وحصد في البعض منها جوائز ثانوية. الى هنا، كلّ شيء على ما يرام، ومن حقّ أعضاء اللجنة الذين اختاروا هذا الفيلم أن يتوقف خيارهم على العنوان الذي يريدونه. وكان يمكن تجاهل القضية برمتها، أولاً، لو ان "وينن" فيلم جيد الصنعة، وثانياً لو لم تنتج السينما اللبنانية هذه السنة مرشحاً جدياً هو "الوادي" لغسان سلهب، واحد من أروع الأفلام، انطلق من مهرجان تورونتو في أيلول 2014، قبل أن يحطّ في برلين، مروراً بأبو ظبي وفريبور وموما.
"وينن"، خلافاً لـ"الوادي"، فيلم هواة ضعيف البنية والاخراج والتمثيل والادارة الفنية. فيلم مصنوع في اطار جامعي، يقول عنه أصحابه انه ينتمي الى السينما المستقلة (كأن هناك في لبنان شيئاً آخر غير السينما المستقلة)، وهو يسحب اذاً البساط من تحت فيلم كبير بلغة سينمائية ناضجة واطار بصري رفيع الشأن. الأنكى من هذا كله ان هذا الخيار يطرح علامات استفهام كبيرة، كون أربعة من أعضاء لجنة التحكيم مقرّبين من جامعة اللويزة التي أنتجت الفيلم. الأول، السينيفيلي الكبير أميل شاهين، يدرّس فيها. الثاني، نصري براكس، مستشار وزير الثقافة، تربطه بالجامعة علاقات مهنية، وهو سبق أن أنجز وثائقياً عن الراحل ريمون جبارة بطلب من الجامعة. الثالث، زياد صعيبة، هو الآخر مدرس في اللويزة، أمّا العضو الرابع في لجنة التحكيم فهو (تمسكوا جيداً)... سام لحود، منتج "وينن". أما العضو الخامس في اللجنة، المذيعة غيدا مجذوب، فهل مصادفة انها كانت مرات عدة في لجان تحكيم مهرجان الفيلم الطالبي الذي تحتضنه اللويزة؟
أكثرنا يعلم ان من المستحيل ان يصل فيلم كهذا الى النهائيات، وخصوصاً ان الأمر يحتاج الى ترويج في أميركا تبلغ تكلفته أضعاف موازنة الفيلم. بيد ان اختيار فيلم هامشي غير مستوفٍ شروط السينما الحقيقية، يكشف العقلية التي يتم فيها اختيار الأفلام اللبنانية، بحيث يسود منطق تفضيل الأفلام المباشرة، الفقيرة الخيال والعديمة الألق، التي تطرح قضايا (قضية المفقودين في "وينن")، على سواها من الأعمال التي تنتهج أدوات تعبير موازية وأكثر حداثة. بعد اتصال أجريناه مع أحد أعضاء لجنة الاختيار، تبدى جلياً أن الكفة رجحت سينما "قريبة من الجمهور"، بالمعنى التقليدي الباهت للكلمة، علماً ان ايرادات "وينن" في الصالات اللبنانية لم تكن عالية قط. بسبب ممارسات كهذه، تفوّت السينما اللبنانية فرصة أن تحظى بردّ اعتبار خارجي، ولو معنوي. فاللامنطق السائد داخل جدران مؤسسات الدولة المنهارة، يتبلور من خلال "الأخوانيات" التي تنتصر لأعمال عديمي القيمة والموهبة على حساب سينما طليعية جادة نالت الاعتراف الدولي. هذا منطق معمول به في كل مؤسسات النظام اللبناني. شيء مماثل حدث في الهند في العام 2007، عندما فضّلت لجنة تابعة الى "فيديرالية الفيلم في الهند"، "أكلافيا" على "دهارم"، ما دفع بمخرجه بهافنا تاولار الى رفع قضية ضد اللجنة واتهامها بالانحياز لمصالح شخصية.
سألنا الناقد السينمائي نديم جرجوره ("السفير") عن رأيه في هذا الموضوع، فقال: "اختيار هذا الفيلم يؤكّد أن التسطيح والسذاجة والخواء "أصول" معتمدة من قِبَل كثيرين في مقاربة كل نتاج لبناني يريده هؤلاء مجرّد "ترفيه مملّ" لا أكثر. فيلمٌ طالبيّ يُراد له تجربة عمل جماعي، على ركيزة درامية إنسانية "مهمّة". الركيزة وحدها لا تصنع فيلماً، وإن تكن مهمّة. النية الصافية والتمرين على العمل الجماعي لا يصنعان فيلماً، مهما تبلغ النية من صفاء، ومهما يكن التمرين صادقاً. "وينن" عمل لا يستحقّ تسميته بـ"فيلم سينمائي" يصبح فجأة "الممثل الرسمي" للبنان في لعبة الـ"أوسكارات"، لأن لا معايير واضحة في عملية الاختيار، ولا صدقية شفّافة وواقعية للجنة تتألّف من أفراد لا يملك بعضهم حدّاً أدنى من وعي معرفي سينمائي حقيقي، علماً أن بعض هؤلاء يُدرِّس في معهد/ كلية تُنتج "وينن"، فـ"يستميت" في اجتماع اللجنة دفاعاً عن أفعال يجب معاقبته عليها أصلاً. عملٌ لم يصمد طويلاً في الصالات التجارية اللبنانية لشدّة ركاكته التي لا تنطلي على كثيرين، يصبح "راية" مرفوعة باسم لبنان في محفل سينمائي دولي. لذا، ولأن ركاكة البلد وانهياره وفراغه الثقافي المدوّي معالم أساسية، يصبح اختيار "وينن" انعكاساً للصورة البائسة للبنان. فهنيئاً لكم بالبلد وخرابه".
يبقى السؤال الأكثر الحاحاً: لِمَ يصر القائمون على الـ"أوسكار" على إهانة السينمائيين حول العالم عبر إسناد مهام اختيار أفلامهم الى لجان تابعة لمؤسسات رسمية أو جهات بيروقراطية، وخصوصاً ان كثيراً من الدول العريية وغير العربية تحارب السينمائيين على أرضها من خلال عدم مساندتهم ودعمهم وتشجيعهم، ثم يتم تكليف الدولة عينها لاختيار هذا الفيلم أو ذاك. انها لفضيحة، ومن الذلّ أن يناضل السينمائي الأصيل من أجل اتمام أعماله، ثم توضع عبقات أمامه تمنع احتمال انتشار فكره في الخارج.