عندما ينهي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد ساعات، لن يكون النظام الإقليمي المشرقي ما بعد الثامن والعشرين من أيلول على ما كان عليه قبل هذا اليوم. ذلك أن الرئيس الروسي يقف للمرة الأولى، منذ 10 أعوام أمام دورة سنوية (هي السبعون)، للجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو حدث يبدو استثنائيا إلى درجة كبيرة، خصوصا أنه يواكب الاتجاه إلى انقلاب كبير في الصراع على سوريا، عبّرت عنه موجة التصريحات الأوروبية العائدة إلى اعتبار الرئيس بشار الأسد شريكاً في مستقبل سوريا وفي أي عملية انتقالية، ومع استمرار الجسر الجوي الروسي، رغم أن موسكو كانت قد حددت 24 من الشهر الحالي حداً نهائياً لعمله، ما يجعل الحشد الروسي أكبر مما كان متوقعا بكثير.
ومن دون الدخول في التفاصيل، يقول مصدر مقرب من الإدارة الروسية إن خطاب الثامن والعشرين من أيلول، سيركز على سوريا، ويضع خريطة الطريق الروسية للحرب التي ستنخرط فيها عشرات المقاتلات الروسية التي تصطف على مدرج مطار «حميميم» قرب اللاذقية، كما يحدد المسار السياسي الذي سيواكب العملية العسكرية.
وكانت موسكو قد أكدت الإشارات إلى مركزية الملف السوري في الخطاب الرئاسي الروسي، وفي اللقاء مع الرئيس الأميركي باراك أوباما. فبعدما قال متحدث باسم البيت الأبيض إن اللقاء الثنائي الروسي ـ الأميركي سيتناول خاصة الأزمة الأوكرانية، ردت موسكو بأن الملف السوري سيكون أساس البحث بين بوتين وأوباما.
وبحسب التوقعات، لن يكشف بوتين عن كامل الإستراتيجية العسكرية الروسية في سوريا، وعما إذا كانت الضربات التي ستباشر المقاتلات الروسية بتوجيهها، لن تقتصر على تنظيم «داعش» كما هو معلن، بل ستتجاوزها إلى الجماعات «الجهادية» الأخرى، مثل «جيش الفتح» والجماعات التركستانية والشيشانية، التي تشكل تهديدا مباشرا للجيش السوري، وللنظام السوري، أكثر من خطر «داعش». ويتجه الروس إلى تأمين منطقة اللاذقية، وسهل الغاب، وتحصين خط جورين شمال غرب حماه، الذي لا يزال إحدى أهم قواعد الجيش السوري، والحرس الثوري الإيراني، ومركز انطلاق ضرورياً لأي عملية تستهدف استعادة ريف مدينة جسر الشغور، التي تبعد 22 كيلومترا إلى الشمال من جورين، وهي عملية تدخل في نطاق تحصين الساحل السوري، وضرب أحد أهم مرتكزات التدخل التركي في الشمال السوري، عبر «جيش الفتح». كما من المنتظر أن تنشط عمليات دعم استعادة مطار كويرس المحاصر من قبل «داعش»، منذ أكثر من عامين، في ريف حلب الشرقي.
ويبحث الروس عن تسجيل انتصار نوعي، ورمزي كبير في سوريا، يدعم انخراطهم الكبير، عبر مواكبة العملية التي استأنفها الجيش في تدمر، بتكثيف طلعات الطيران على المدينة الأثرية التي تحتل مكانة «إعلامية عالمية»، وضرب معقل «داعش» الأساسي في الرقة وتهديد طرق إمداده لإجباره على الانكفاء من تدمر وشرق حمص، وحماية المدينة التي تشكل ظهيره الرئيسي في العراق، ومركز حشد قواته، ومستودع ترسانته وغنائمه من الجيش العراقي.
وبحسب التوقعات، سيلجأ بوتين، الذي سيعلن عن انطلاق العمليات العسكرية، إلى عرض انضمام روسيا إلى التحالف الدولي ضد الإرهاب، بشروط جديدة، أو إنشاء تحالف جديد والسير بالعمليات العسكرية من دون التحالف القائم، إذا ما رفض الأميركيون اليد الروسية الممدودة، والذهاب إلى تعزيز التحالف مع إيران، كبديل لا بد منه.
ويبدو أن الشق السياسي من أهداف الانخراط الروسي قد سبق خطاب بوتين أمام الأمم المتحدة، إذ قال بوتين، في مقابلة مع قناة «سي بي أس» الاميركية، ان «هناك جيشا شرعيا عاديا وحيدا، وهو جيش الرئيس السوري بشار الأسد، الذي يواجه المعارضة، وفق تأويلات بعض شركائنا الدوليين، ولكن في الحقيقة وعلى أرض الواقع هو يواجه التنظيمات الإرهابية»، منتقداً دور الولايات المتحدة في دعم «الجناح الحربي للقوات المعارضة» الذي «لا يستجيب، بحسب رأيي لمبادئ القانون الدولي المعاصر ولمبادئ منظمة الأمم المتحدة»، مؤكداً أن روسيا «تدعم الهيئات الحكومية الشرعية حصراً».
ولن يعرض الرئيس الروسي أكثر من عملية سياسية تحفظ البنى الحالية للدولة السورية، وتقوم على ضم من يقبل من المعارضة «الوطنية» إلى حكومة وحدة، أولويتها مقاتلة الإرهاب، عبر مسار يبدأ بانتخابات تشريعية (في أيار المقبل).
ويقطع المسار البوتيني المعروض الطريق على مسار جنيف، لاقتناع الروس، كما يقول مصدر غربي، بأن الأميركيين لا يزالون في الحقيقة يدعمون «الائتلاف» المعارض، وأنهم سيعملون على تخريب العملية السياسية، كما فعلوا في جنيف واحد واثنين. ويعد تدعيم الأسد، منسجماً مع خطة أوسع عسكرية وسياسية لمنح الدولة السورية، التي يمثلها الرئيس السوري، هامشاً أوسع من القوة، وتقليص دور القوى الرديفة التي تقاتل إلى جانبه، من دفاع وطني أو لجان شعبية.
وتقول مصادر غربية إن اتخاذ قرار الانخراط بشكل أوسع في سوريا جاء بعد تقارير رفعها جنرال روسي، يعمل كخبير في أركان الجيش السوري. ويتحدث التقرير عن بدء تصدع الجيش، وتراجع قدرته على مواصلة القتال، بعد خمسة أعوام من استنزافه على مئات الجبهات، خصوصا في الشمال السوري، والتحذير من احتمال انكفائه المتزايد أمام هجمات «داعش» و «جيش الفتح»، وكلاهما يعمل تحت تنسيق تركي، وتمويل سعودي. وتقول معلومات متضافرة إن الروس اعتبروا أن تجربة الدفاع الوطني في مواجهة الجماعات المسلحة قد فشلت، وأنها أدت إلى إضعاف سلطة الدولة السورية، والجيش السوري. كما أنهم يريدون تقوية دور الدولة السورية، باقتراح تقليص دور الدفاع الوطني واللجان الشعبية، وتأليف فيلق رابع من الجيش السوري، يضمهم تحت قيادته، ويعيد تأهيل 75 ألف مقاتل، يرفع من قدرة الجيش السوري على تجديد قواته، ويخفف من الفوضى في سلسلة العمليات.
وفي سياق التقرير نفسه، جرى إعداد الحشد الروسي في سوريا، منذ مطلع الشهر الحالي، من دون أن تلحظ الاستخبارات الغربية والأميركية التغيير الذي طرأ على الإستراتيجية الروسية في سوريا. ففي 12 أيلول الحالي، أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن إنهاء مناورات، لم تكن مقررة مسبقا، تحاكي تماما الجسر الجوي الروسي، وتشكل تمرينا مسبقا على إنجازه.
ويبدو أن الحرب الروسية من سوريا، قد جرى الإعداد لها بعناية، وتوّجت في السابع من أيلول بطلب بوتين رفع درجة الاستعداد لقوات المنطقة العسكرية المركزية، وقوات الإنزال الجوي، وتشكيلات «الكوندور 124» للنقل الجوي. وشاركت في العملية 170 طائرة، و7 آلاف قطعة من الأسلحة والمعدات العسكرية، أكملت طواقم أكثر من 50 طائرة من طراز «سوخوي 24 و27» التدريب على عملية الانتقال المفاجئ إلى مطارات غير معروفة تبعد من ألف إلى ثلاثة آلاف كيلومتر، وتجهيز الطائرات للإقلاع المكرر، في بيئة مشابهة لسوريا. وتقول معلومات غربية إن العدد المتوقع للطائرات المقاتلة الروسية قد يصل إلى 50 طائرة، فيما يرتفع عدد القوات البرية، من فنيين وخبراء ومدربين وقوات حماية، من ألف مقاتل إلى ثلاثة آلاف في الأيام المقبلة، ويبدو أن الروس قد أرسلوا منذ 12 الشهر الحالي أحد قادة الجيوش الجوية الروسية لتنسيق عمليات الجسر الجوي مع قائد القوى الجوية السورية اللواء احمد بلول.
ولا ينبغي للضجيج الإعلامي الكثيف، الذي ولّده الانخراط الروسي غير المسبوق في سوريا، أن يغيب الأسئلة التي يطرحها الروس على أنفسهم، على ضوء تجربتهم السابقة في قتال الجماعات «الجهادية» في أفغانستان، من استبعاد احتمال الانزلاق في مستنقع سوري غير منتظر، إذا لم تتوفر لذلك شروط إقليمية ضرورية لمحاصرة «داعش»، ووقف دعم الجماعات المسلحة لكي تتحول القوى الإقليمية إلى تحالف غير معلن ضد الانخراط الروسي في سوريا واستنزافها. كما انه من المشروع التأكد من أن الحملة الروسية، بالتنسيق مع إيران والجيش السوري، ستكون أكثر فعالية من التحالف الأميركي، الذي وجه أكثر من 3500 غارة جوية منذ عام على أهداف لتنظيم «داعش»، من دون أن يتمكن من احتوائه، لا في العراق ولا في سوريا.
وقد تقدم التطورات السياسية بعض الإجابات على تلك المخاوف. إذ قام الروس، خلال الأسابيع الماضية، بالتمهيد لانخراطهم في سوريا، بالتوازي مع إشهار قوتهم وإرادتهم بالقتال، ودعم الأسد، عبر تجميع الأوراق الإقليمية أولا في يدهم، وتهيئة شروط انتصارهم. وكان من المهم إقناع الأردن وتركيا وإسرائيل أولاً بجدية التحرك الروسي، والتراجع عن التدخل في سوريا، أو تقنين هذا التدخل، كي لا يصطدم بالمصالح الإستراتيجية الروسية في سوريا. إذ أقر الملك الأردني عبدالله الثاني، بعد زيارة موسكو الشهر الماضي، «بمحورية الدور الروسي في الحل السياسي في سوريا»، وعقب ذلك تعطيل غرفة عملية عمان، التي كانت قد تعرضت إلى هزيمة كبيرة على يد الجيش السوري في درعا، الذي حطم خمس موجات متتالية من عاصفة الجنوب. وجاء الدور الإسرائيلي الذي تلقى مع رئيس الحكومة بنيامين نتيناهو تحذيراً روسياً، بوقف أي تدخل في الجبهة الجنوبية السورية، لقاء ضمانات بعدم تحويلها إلى مصدر تهديد للأمن الإسرائيلي. وفي رد مبطن على التعزيزات الروسية واعلان رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو ان الاحتلال لن يغير من إستراتيجيته، استهدفت مدفعية الاحتلال موقعين للجيش السوري في القنيطرة، بحجة سقوط صاروخ أطلق من سوريا على الجولان من دون ان يتسبب في إصابات أو أضرار.
وقال المتحدث باسم قوات الاحتلال بيتر ليرنر إن «إسرائيل لن تتهاون مع اي انتهاك لسيادتها» موضحا ان «الجيش السوري هو المسؤول وعليه أن يتحمل مسؤولية أي اعتداء يحصل من أراضيه». واضاف ان قذائف المدفعية تشكل ردا على صاروخ أطلق من سوريا أمس الأول وسقط في الجولان المحتل.
وتجرع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في جامع موسكو، الأربعاء الماضي، سم العزوف عن الصلاة في الجامع الأموي، والتحول إلى اعتبار الأسد شريكا في الحل بعد خمسة أعوام من قيادة الحرب على سوريا.
وجلي أن الرئيس الروسي لم يكن لينتزع التراجع التركي، لولا اللحظة السياسية الاردوغانية الحرجة، وضعف الرئيس التركي المستمر، واتساع جبهة الأزمات التي يواجهها، من الحرب مع الأكراد، وتهافت شرعيته الداخلية، منتصرا في الانتخابات التشريعية المقبلة أو مهزوما. والأرجح أن يرفع بوتين من جرعة الضغط على الرئيس التركي لاحتواء أي محاولة لاستنزافه في الشمال السوري، بدعوة مجلس الأمن إلى تطبيق عملي للقرارين 2017 و2178، ودفع تركيا خصوصا، والأردن إلى منع عبور المسلحين إلى سوريا، ومنع تمويلهم، وهو ما يشكل أكثر من نصف الحرب واختصار المعارك في سوريا.
وتبقى الحلقة السعودية، التي أخفق الروس في تحييدها، لكن المكالمة الهاتفية أمس التي أجراها بوتين مع الملك سلمان بن عبد العزيز، لن تخرج عن نطاق حملة التحييد، التي نجحت باحتواء الولايات المتحدة وفرنسا، على قاعدة أولوية احتواء «داعش»، الذي أفلت من السيطرة. وليس مؤكداً ما إذا كانت المكالمة الأخيرة بين القيصر والملك قد أفلحت على الأقل بتحييده، إذ لا تزال السعودية تعتبر أنها قادرة على الانتصار عسكرياً في سوريا، كما في اليمن، ومنازعة الروس القرار في سوريا، ولي ساعد النظام الإقليمي، وربما الدولي الجديد الذي يلوح خلف الأساطيل الروسية في المتوسط، ومطار سوري صغير قرب اللاذقية.