أحياناً تصل معلومات مغلوطة الى الجهاز المناعي فتحرِّضه على مهاجمة الخلايا السليمة في الجسم. تماماً، مثل الجيش الذي يبدأ بضرب مواقعه الخاصة ويطيح بعناصر الثكنة التي يحميها. لمَ ينقضّ الجهاز المناعي أحياناً، على الخلايا السليمة التي من المفروض أن يزود ويدرأ عنها المخاطر الغاشمة التي يشنّها عليها العدوّ؟أين تكمن نقطة ضعف "العدو" الذي يهاجم النخاعين ويفتك بهما، فتبطأ حركة المريض وتتراجع قدراته تدريجاً؟ مَن يتلقى الضربة تلوَ الأخرى من "جهازه المناعي" الذي من المفروض أن يقدَّم له الحماية؟ ومن يتكبَّد الأضرار؟
وكيف توصَّل البروفسور جان ماري سان ريمي، مؤسِس مركز ImCyse للطب الحيوي وفريقه، الى إكتشاف الثغرة ونقطة الضعف التي يمكن من خلالها تقويض هذا العدو وتسديد الضربة القاضية له؟ وهل بات البروفسور وفريقه الطبي، على قاب قوسين من معجزة شفاء مرض التصلُّب اللويحي؟
"الجمهورية" اتصلت بمركز البيولوجيا الجزيئية والأوعية الدموية في جامعة لوفان بلجيكا ImCyse، الذي لا يُعتبر منصة التكنولوجيا المتطوِّرة وثمرة جهود العلماء المكثَّفة وحسب، بل مركز التعامل بأخلاق سامية ومصداقية واحترام مع وسائل الإعلام أيضاً، وتحية من "الجمهورية" الى كلّ من البروفسور جان ماري سان ريمي، الدكتور بيار فاندوبابوليار، وكبار علماء الفريق لوك فاندرليست، وإليكم التفاصيل.
التصلُّب اللويحي
يتمثَّل التصلُّب اللويحي Sclérose en plaques، في مهاجمة جهاز المناعة لنفسه، ما يؤدّي الى أضرار فادحة في مستوى الميالين Myéline او النخاعين، المادة الدهنية التي تغلِّف الألياف العصبية في الدماغ والنخاع الشوكي. ولقد إنطلقت التجارب العيادية في ImCyse، على مريض تطوِّع عن طيب خاطر خدمة للطب والعلم.
ومن المعروف أنّ التصلُّب اللويحي، مرض لا شفاء منه ولكن بالنسبة للبروفسور جان ماري سان ريمي، مؤسِس ImCyse للطب الحيوي وفريقه، يمكن معالجته وكبح امتداده وإيقافه عند نقطة معيَّّنة. كذلك، يمكن التوصُّل الى استنباط لقاح يقي منه، ويَعِد أيضاً بقهر التصلُّب اللويحي والقضاء عليه قريباً.
علاج ثوروي
في الواقع، بفضل البروفسور جان ماري سان ريمي، أصبح كلّ شيء جاهزاً، إنه رجلُ علمٍ استحدث علاجاً فاعلاً، بالتعاون مع فريقه المؤلف من نحو 15 باحثاً. لقد أمسى البروفسور على قاب قوسين من الإنتصار الطبي وسيُعلن عن علاجه الثوروي قريباً.
في الواقع، البوفسور سان ريمي لم يعدِّل الأدوات المتوافرة والتي تلعب دورَها في الحدود الضيقة المرسومة لها. بل إخترع أدواتٍ جديدة، مختلفة وبأبعادٍ استراتيجية غيرِ معهودة،. وبفضل هذا الإكتشاف، يمكن إزالة العامل الذي يؤدي الى ظهور المرض نهائياً. في حين، الطبّ الحالي بالكاد يستطيع إدارة الأعراض وتقديم الإعانات والأدوية ذات التأثيرات الجانبية التي تؤذي أكثر ممّا تعالج.
في الواقع، إنّ ما تقوم به ImCyse يشكِّل الأمل في الشفاء من التصلُّب اللويحي وغيره من أمراض المناعة الذاتية maladies auto-immunitaires فضلاً عن كيفية التحصُّن ضدّها، لأنّ المؤسسة تطمح أيضاً إلى فتح الطريق أمام استنباط لقاحاتٍ جديدة تقي منها.
بروفسور جان ماري سان ريمي
"المريض الأول"، يقول البروفسور، «يتهيّأ منذ شهر حزيران الماضي وهو على تمام الإستعداد، للخضوع للإختبار الإكلينيكي".
في الحقيقة، ينوِّه البروفسور، "لدينا مريض واحد..." لا شك في إنه عدد ضئيل جداً، بيد أنّ التحدي الذي يواجهنا كبير ولا نستطيع انتظار وصول وفود المرضى الذين وافقوا على إجراء التجارب عليهم.
«هل تستطيعون أن تتخيَّلوا الضغوطات التي نرزح تحتها؟ في الدرجة الأولى يكفي ما يتعرَّض له المريض نفسه والذي سيكون محوَر الإختبار على مدى شهور. ومهما كنا واثقين من نتائج الإختبار ومهما كانت واعدة، لا نستطيع التبجُّح بالإنتصار على المرض، قبل المرور بمرحلة التجارب والسهر والمراقبة والنضال. إنه لَمِن الأفضل الإنتظار ومن ثمّ الإعلان عن الخبر السار والقول "إننا توصّلنا الى شفاء مرض التصلُّب اللويحي".
وأضاف، "هل يمكنكم ان تتخيَّلوا الضغوطات الممارَسة على الفريق الطبي المحيط بالمريض (او المريضة)، وعلى طبيب الأعصاب في عيادات سان لوك الجامعية؟
العلاجات التقليدية
«ترتكز علاجات التصلُّب اللويحي التقليدية، على الستيرويدات القشرية، الأجسام المضادة، والجزيئات الكيماوية، يعني أخذ نسبة كبيرة من الأدوية والحصول على نتيجة محدودة، فضلاً عن آثار جانبية غير مرغوب بها. ولكننا توصَّلنا الى منطق يؤمن بأنّ المستحيل قد يصير ممكناً.
الوصفة السحرية
يشرح البروفسور سان ريمي، بنود "الوصفة السحرية" التي تعتمدها مؤسسة ImCyse، وعنها يقول: "ستخوّلنا عبور طريق السعد والهناء أو التعاسة والمعاناة. وعلى جدول عملنا اليوم: "التصلُّب اللويحي".
إنّ هذا المرض "غامض"، قد يكون إلتهاباً، أو عدوى، أو تسمُّماً، لا نعلم الشيء الكثير عن أسبابه. ولكن لمَ نهدُر الوقت بحثاً في أصوله وتتبّع جذوره؟ المهمّ اكتشاف آلية إجتياحه الدماغ ونصدّها".
بتنا نعلم أنّ المرض يهاجم النخاعين la myéline، التي تقي الخلايا العصبية وتحميها، فتلتهب. وفي هذا الأتون المضطرب، الذي يهوج ويموج "يجن" جنون الجهاز المناعي وتختلط عليه الأمور فيظنّ انها بروتينات غريبة، «فيفقد عقله» مستنفراً كلّ قواته ويبدأ بتدمير مع الأسف، ثكنته الخاصة. وتشرع المعارك الطاحنة في تغذية بعضها البعض وينتشر التمرُّد وتمتدّ رقعته.
• مَن يتكبَّد الأضرار؟
مَن يتلقى الضربة تلوَ الأخرى من "جهازه المناعي" الذي من المفروض أن يقدّم له الحماية؟ ومَن يتكبَّد الأضرار؟ الدماغ والنخاع الشوكي حيث تُهاجم المادة السنجابية أيضاً ولا توفر المعارك والإجتياحات المادة البيضاء التي تضبط العواطف والذاكرة والحركة.
ثم يضيف البروفسور قائلاً: يجب أن يسعى طبيب الأعصاب أولاً الى الحدّ من مفعول كرة الثلج أيْ كبح إمتداد الإلتهاب عبر الستيرويدات القشرية. إنها السلاح الفعال الذي يمكِّن المريض من كسب الوقت من دون المجازفة بإصابته بالسكري وإعتام عدسة العين وزيادة الوزن... إنها لائحة الأضرار "الجانبية" التي ترافق في بعض الأحيان التصلُّب اللويحي وهي ليست قليلة. فإذا لم نتوصَّل الى لجم "العدو" سيُكمل عمله المدمِّر ويطيح بكلّ شيء.
قطع الإتصال بالدماغ
لذا يجب إبطال النشاط المدمِّر الذي يستبيح الدماغ، من خلال مبدأ منع الخلية التي تحمل المعلومات الخطيرة من التواصل معه إذ نقطع أيّ فرصة للإتصال بينهما.
ويشرح سان ريمي قائلاً: "يكمن السرّ في اكتشاف نقطة ضعف العدو الذي يهاجم النخاعين ويفتك بها عبر البروتينة الصغيرة التي تهمّ كرية الدم البيضاء lymphocyte T لقراءتها. لقد عثرنا على وسيلة قادرة على تعديل الرسالة الموجهة الى النخاعين او الميالين، بحيث نضيف إليها معلومة صغيرة مؤلفة من أربعة أحرف هي CXXC، أيْ السيستين والحمض الأميني، في محاولة لتخفيض نشاط الأكسدة الذي يبرمج عملية إنتحار الخلايا التي تجد نفسها مُجبَرة على تدمير نفسها.
أرأيتم... كلمة مؤلفة من أربعة أحرف فقط، ندسّها على شكل رسالة مشفَّرة من شأنها عكس المعلومات وصدّ النشاط المدمِّر. وبدلاً من الإنقضاض على الميالين، تنقضّ على العدو وتقتله".
(الجمهورية)