قدمت السلطة السياسية نفسها امس، باسوأ صورة، وظهرت للرأي العام العربي والدولي بانها دولة بوليسية، تقمع شبابها وشاباتها ولا تحاور شعبها ولم تستفد من التجارب العربية في الساحات العربية.
الدولة ظهرت امس بانها دولة عاجزة، وتعاني مشكلة حقيقية، ومأزقا لا تعرف الخروج منه، ولا تملك اي اجندة للتعامل مع الظروف الطارئة، ولم تدرك ان لبنان قبل 22 آب ليس كما بعده.
الدولة بدت امس انها تتعاطى بغباء مع تحركات الشباب، والسؤال الاساسي: من يقف وراء الاصرار على استخدام القوة بدلاً من اللجوء الى الحوار. وقد ظهرت الصورة امس، وكأن المتظاهرين احرار واركان طاولة الحوار محاصرون ومحكومون بنقاشات تكرر نفسها منذ الفراغ الرئاسي، ولا تقدم للمواطن اي شيء، حتى ان اقطاب طاولة الحوار يؤكدون ان «الجلسات للصورة» لان قرار الحل والربط الرئاسي خارج البلاد، وليسوا الا «صدى» للخارج وسيوافقون على ما يقرره هذا الخارج.
ورغم هذه الصورة للمسؤولين، فانهم ما زالوا يكابرون ولم يتعظوا من تجارب الساحات العربية، ولم يدركوا ان القمع لا يحل المشاكل، وان جيوشاً تملك امكانات عجزت عن حماية نظام حائر، بغض النظر عن نتائج ما سمي بالربيع العربي.
التحركات الشبابية بدأت عبر مجموعات صغيرة، في ساحتي الشهداء ورياض الصلح، وهؤلاء الشباب لا يملكون الامكانات لقلب طاولة الحوار وتعطيلها، وكل ما فعلوه انهم حاولوا «رمي البيض» على «المواكب»، واطلقوا العنان لحناجرهم ضد فساد الطبقة السياسية. وبالتالي لا مبرر لاستخدام العنف المفرط ضد الشباب والصبايا، مما ادى جراء «النقل التلفزيوني» المباشر من محطات لبنانية وعربية وعالمية الى ازدياد التعاطف مع هؤلاء الشبان، ودفع العديد من الناس الى النزول الى ساحتي رياض الصلح والشهداء لمؤازرتهم ورفض قمع السلطة، فكبر «الحراك» مساءً بعد ان كان محدوداً صباحاً، واستفاد قادة الحراك من القمع ضدهم، فرفعوا سقف مطالبهم الى الاعتصام المفتوح حتى اطلاق المعتقلين الـ 40 من الشباب والصبايا، الذين افرج عنهم.
اخطاء السلطة بالتعاطي مع المتظاهرين لا تبرر ايضاً اخطاء بعض قادة الحراك عبر اطلاق الكلمات غير اللائقة ضد مرجعية سياسية بحجم الرئيس نبيه بري. وهذا ما ادى الى استفزاز جمهور حركة «امل» وعموم الجمهور اللبناني، مما دفع ببعض الشباب التابعين لحركة «امل» الى النزول الى باحة وزارة البيئة والاشتباك مع المتظاهرين، وكادت تحصل فتنة كبيرة في البلد، لكن الرئيس نبيه بري تدخل فوراً واعطى تعليمات صارمة بمنع اي اشكال. ونفت امل ان يكون لها اي علاقة لها بالموضوع، لكنها انتقدت التطاول على مرجعيات سياسية، وفي وقت لاحق، تمت تسوية الاشكال وجرت مصالحة.
وفيما كان المتظاهرون يعبئون الساحات ويخطفون الاضواء والكاميرات، كانت طاولة الحوار تعقد على بعد مئات الامتار برئاسة الرئيس نبيه بري وبغياب العماد ميشال عون ومغادرة النائب وليد جنبلاط الجلسة مبكراً لسبب شخصي كما قال. لكن جنبلاط كان قد غرد على «تويتر» محذراً من عمل امني كبير واستغلال البعض للظروف، سائلاً بعض الاعلام عن سبب التحريض، والى اين يريدون الوصول.
وحسب مصادر تابعت جلسة الحوار، فانه لم يحدث اي خرق وبقيت المواقف على حالها. ورغم الدعوة الى جلسة جديدة في 22 ايلول، استبعدت المصادر ان يتغيب عدد من الاقطاب عن الجلسة المقبلة وأن يقتصر الغياب على العماد ميشال عون. وقد شهدت الجلسة تباينات واضحة في المواقف بين الرئيس السنيورة من جهة، والوزير جبران باسيل والنائبين سليمان فرنجيه ومحمد رعد من جهة اخرى.
وبالعودة الى الحراك المدني، يبقى السؤال: لماذا تجاهل «الحراك»، ولماذا لم يبادر المسؤولون حتى الآن الى العمل على فتح ابواب الحوار مع قادة الحراك المدني، والسؤال عن مطالبهم؟ ولماذا تصوير هؤلاء الشباب بانهم مجموعات تعمل باوامر خارجية؟
ماذا قدمت السلطة السياسية لتنفيس الاحتقان من الشارع؟ فازمة النفايات تتفاعل، والحل لن يتم قبل تنظيم سرقة هذا «القطاع» وارباحه التي تفوق مليارات الدولارات؟ هل لجأت السلطة الى الدعوة لفتح نقاش حقيقي حول ازمة الكهرباء، خصوصاً ان ساعات التقنين ارتفعت؟ هل لجأت الحكومة الى فتح نقاش حول عمل الوزارات وروائح الفساد والسمسرات من «الميكانيك» والدوائر العقارية وغيرها؟ هل فتحت السلطة باب النقاش في عمليات الهدر في المشاريع والتلزيمات بالتراضي؟ لم يحصل شيء من ذلك، بل ان اركان السلطة زادوا من فسادهم وجشعهم، وردوا على صرخات الناس على طريقة «عنزة ولو طارت». لا بل انهم فتحوا نقاشاً في موضوع الرئاسة، لا يملكون الحل والربط فيه حسب اعترافهم.
الناس لن يخرجوا من الشارع قبل تحقيق المطالب، والجرح بدأ يكبر ويتوسع ويتعمق، وطالماًَ الطبقة السياسية «تسد اذانها» فانها تزيد من مأزقها الذي هو مأزق حقيقي تعيشه هذه الطبقة السياسية للمرة الاولى منذ اتفاق الطائف.
الناس لن يخرجوا من الشوارع بعد ان فقدت الدولة هيبتها كلياً، والثقة اساساً مفقودة بين السلطة وشعبها، وترسخ فقدانها حالياً. وبالتالي لا احد يعرف كيف سيكون مسار الامور خلال الايام المقبلة، لكن التجارب التاريخية اكدت ان الشعب هو المنتصر في النهاية، ومن ينحاز الى الشعب سينجح ويحقق ما يريد، ولننتظر ما ستحمله الايام المقبلة.
وفي الخلاصة، الدولة في مأزق وكذلك الحراك ايضاً الذي لم يقدم «برنامجه» بعد، ولم يحدد مطالبه، ولم يقل ماذا يريد، وما هي حدود اهداف مطالبه؟
وما هو الآني وما هو الاستراتيجي؟ خصوصاً ان على قادة الحراك المدني ان يدركوا انهم يواجهون قوة منظمة لا تتخلى عن امتيازاتها بسهولة. وبالتالي عليهم قياس خطواتهم قبل ان تضيّع سدى اتعاب الناس باحباط جديد؟
والخوف ان تذهب الامور الى «فوضى منظمة» او فوضى بناءة ستؤدي الى خراب على الجميع، في ظل تعدد اللاعبين في الداخل، والخطر الارهابي واوضاع المنطقة.
ـ طاولة الحوار ـ
تنشر «الديار» ابرز المداخلات على طاولة الحوار وان لم يحمل جديدا، لكن النقاش توسع في الجلسة الثانية للحوار، التي انعقدت امس في مجلس النواب برئاسة الرئيس نبيه بري، حول البند الاول من جدول الاعمال المتعلق بانتخاب رئيس الجمهورية ليشمل مواضيع سياسية ودستورية وملفات اخرى ابرزها قانون الانتخابات النيابية وقضية النفايات المتفاقمة وقرار مجلس الوزراء الاخير بشأنها.
ووفقا لاحد المشاركين في الحوار فان النقاش اخذ طابعا سياسيا ودستوريا بامتياز، وبرزت التباينات بوضوح حول المعايير التمثيلية لرئيس الجمهورية من دون الوصول الى مقاربات مشتركة في هذا الموضوع.
وتدخل الرئيس بري اكثر من مرة لوضع النقاش في نصابه، مركزا على السعي الى «تدوير الزوايا» في التعاطي مع هذا الموضوع للوصول الى قواسم مشتركة او نتائج ايجابية ملموسة حول البند الاول المطروح على جدول الاعمال.
وعلمت «الديار» من مصادر مطلعة انه شدد في نهاية الجلسة على ان يأتي كل رئيس كتلة نيابية باقتراحات مكتوبة لمتابعة مناقشة هذا البند.
وتحدث معظم المشاركين في الجلسة وبرزت مداخلات متكررة عديدة لا سيما تلك التي اخذت شكل السجال السياسي والدستوري حول الاستحقاق الرئاسي.
الرئيس فؤاد السنيورة قدم مداخلة اولى ركز فيها على وجوب قيام النواب بواجبهم لانتخاب رئيس الجهمورية، معتبر ان هذا الامر هو الموضوع الاساسي في اطار التصدي للازمة القائمة.
وكانت مداخلة للنائب سليمان فرنجية الذي شدد على تطبيق الدستور كاملا، داعيا الى انتخاب رئيس وفقا للمعايير التي تنطلق من هذا التوجه، وركز ايضا على التمثيل السياسي لا انتخاب موظفين، مكررا مخاطبة السنيورة لجهة الالتزام بالدستور كاملا.
ورد السنيورة مؤيدا الامر الذي اعتبره بعض المشاركين انه اقرار ضمني بمقاربة فرنجية.
ووفقا للمصادر فان الوزير باسيل قدم اكثر من مداخلة، وركز في مداخلته الاولي على تحقيق المشاركة الحقيقية في انتخاب رئيس مسيحي قوي، مجددا موقف التيار الوطني الحر اما بانتخاب رئيس بعد اجراء انتخابات نيابية على اساس قانون جديد يعتمد النسبية واما انتخاب رئيس من الشعب.
والمح في مداخلته الى انه اذا ما بقيت الامور لا تأخذ في عين الاعتبار موضوع المشاركة الحقيقية ان عدم مشاركة التيار في الحوار واردة «وليستمر الحوار من دوننا».
وقالت المصادر ان الرئيس بري تدخل بعد ذلك، وقدم مداخلة مطولة ومفصلة شارحا كيفية التعاطي مع مثل هذه الطروحات، وآلية التعديل الدستوري الذي تحتاجه، وهو الامر الذي لا يتوافق مع الواقع الراهن.
وتحدث باسهاب عن موضوع قانون الانتخابات، مؤكدا انه لم يعد من مجال في ظل ما يشهده ما نسمعه من اجماع الا باعتماد قانون جديد على اساس النسبية، وقال هذا واقع لا يمكن تجاهله.
وذكر ايضا كيف انه، وعكس قناعته وموقفه، ايد القانون الارثوذكسي عندما وجد ان هناك اجماعا مسيحيا عليه، لكن بين ليلة وضحاها تبدلت بعض المواقف المسيحية وجرى عقد اجتماعات اخرى للتوصل الى صيغة للقانون الجديد للانتخابات.
وفي مداخلة ثانية شدد الوزير باسيل على وجوب التعامل مع انتخاب رئيس الجمهورية مثل التعاطي مع رئاستي مجلس النواب ومجلس الوزراء وقال انطلاقا من ذلك، نحن نشدد على انتخاب رئيس يملك تمثيلا شعبيا مسيحيا قويا، وهذا لا يتعارض مع الرئيس القوي، ولا يجوز تجاهل ذلك، لا سيما ان هذا التوجه هو الذي يضمن المشاركة الحقيقية للمسيحيين.
وكانت للرئيس السنيورة مداخلة معاكسة، اعتبر فيها ان التعاطي مع رئاسة الجمهورية يختلف عن رئاستي المجلس والحكومة، وشدد على ضرورة انتخاب رئيس وفاقي ليس من 8 ولا من 14 آذار، معتبرا ان انتخابه بحضور ثلثي اعضاء مجلس النواب وبأكثرية 65 نائبا، وانطلاقا من التوافق تكون قوة رئيس الجمهورية.
وقال: ان «التيار الوطني الحر» و«حزب الله» يريدان تعديل الطائف، التيار يريد التعديل للوصول الى رئاسة الجمهورية والحزب للاحتفاظ بسلاحه.
ورد النائب محمد رعد بالقول: لا احد يطالب بتعديل الطائف وعليكم محاورة التيار الوطني لانتخاب رئيس مسيحي قوي.
اما النائب فرنجيه فركز على اهمية التمثيل السياسي الوطني والمسيحي لرئيس الجمهورية في الوقت نفسه. وقال ان التوافق على رئيس او المجيء برئيس توافقي، لا يعني ابدا ان لا يكون من 8 او من 14 آذار، وبالتالي فان الرئيس التوافقي ليس صفة حصرا للمرشح الذي يكون خارج هذين الفريقين.
واكد النائب طلال ارسلان على تطبيق الدستور، معتبرا ان الحضور او الغياب عن جلسة انتخاب رئيس الجمهورية وفق الاصول الديموقراطية البرلمانية، هو من صلب الدستور.
وقدم النائب سامي الجميل اكثر من مداخلة شدد فيها على ان الاولوية لانتخاب رئيس للجمهورية، داعيا الى انتخاب رئيس قادر على مواجهة ومعالجة الازمات الاقتصادية والاجتماعية الضاغطة في البلاد مفترضا ان يكون رئيسا توافقيا ومقبولا من فريقي 8 و14 آذار.
وهنا تدخل النائب فرنجية مؤكدا ان انتخاب الرئيس امر مهم لكنه يجب ألا نصور الامو وكأنه بانتخابه تحل القضايا، لا بل لا يجوز ان نربط انتخاب الرئيس بمعالجة قضايا وملفات مطروحة مثل موضوع النفايات على سبيل المثال، فهل يجوز مثل هذه المقاربة؟
اما النائب وليد جنبلاط فتناول قبل خروجه مبكرا من الجلسة ملفي النفايات والوضع الحكومي. وطالب بضرورة دعم الحكومة لتطبيق خطة الوزير اكرم شهيب لمعالجة ازمة النفايات.
وركز بعض المشاركين في مداخلاتهم على وجوب الانصراف الى تطبيق قرارات الحكومة الاخيرة لا سيما القرار المتعلق بازمة النفايات، وعدم الاستمرار في الانتظار والتمهل في هذا الموضوع الضاغط.
كما طرح البعض ضرورة انتخاب رئيس يكون ضمانة للمسيحيين.