لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم الثمانين بعد الاربعمئة على التوالي.
... وفي الجلسة الثانية لطاولة الحوار، دخل النقاش في بعض التفاصيل المتعلقة بمواصفات رئيس الجمهورية، وبالنظرة الى دستور «الطائف،» حيث قدم كل طرف مقاربته، ليتبين في نهاية الجلسة ان كلا من المتحاورين له «رئيسه» ولبنانه..
والأرجح، أن جلسة الحوار التي التأمت أمس كانت منفصلة عن الواقع، وكأنها عُقدت في كوكب آخر، بعدما عُلم ان أصداء العنف المفرط الذي مارسته القوى الامنية بحق المعتصمين في ساحة الشهداء، لم تصل الى قاعة الاجتماع كما أكد عدد من المشاركين بعد خروجهم!
وما جرى البارحة في الشوارع المحيطة بساحة النجمة من اعتداءات واسعة وموصوفة طالت المنخرطين في الحراك المدني، هو سلوك لا يمتّ بصلة الى منطق الدولة والقانون، بل يستعيد تقاليد الأنظمة البوليسية التي كان يُفترض أن صفحتها قد طويت.
وإذا كانت القوى الامنية قد قصدت من رفع منسوب القمع احتواء الشارع وضبطه على توقيت ساعة السلطة، إلا ان النتيجة أتت عكسية على الارض، إذ ان جرعات العنف الزائد أعادت شد عصب الحراك وتوحيد صفوفه بعد التباينات التي سادت مؤخرا بين الحملات المكوّنة له.
لم تترك العناصر الامنية وسيلة من وسائل القمع، إلا وطبقتها بـ «أمانة»، من دون تمييز بين الشبان والشابات العُزّل سوى من الصوت الهادر، ومن دون أن ينفع وجود العنصر النسائي ضمن الوحدات الامنية في تخفيف حدة الاعتداءات، بل العكس هو الصحيح.
ضرب مبرح، مطاردة في كل الاتجاهات، سحل عشوائي، اعتقال تعسفي، وغيرها من فنون العنف.. استُخدمت على فترات متقطعة طيلة نهار أمس، في مواجهة مجموعات الحراك، ما أدى الى سقوط عدد من الجرحى واعتقال العشرات من بينهم ست فتيات، في مشهد ينطوي على انتهاك لأبسط حقوق الانسان.
وبدا واضحا ان ما حصل لم يكن مجرد رد فعل من قوى الامن على استفزاز من هنا أو هناك، بل هو أقرب الى سيناريو معد سلفا ومخطط له عن سابق تصور وتصميم.
كل شيء كان يدل على «نية مبيتة» لدى أجهزة السلطة، من الإفراط في استعمال العنف الذي لا يسوّغه أي مبرر مقنع، الى التصويب على «أهداف منتقاة» عبر توقيف بعض النشطاء ـ المفاتيح.

إنه «كمين» 16 أيلول الذي كان يرمي الى «إجهاض» الحراك في وضح النهار.
ولعله يمكن لهذا الحراك أن يضيف الى إنجازاته السابقة، واحدا إضافيا، وهو انه نجا من الكمين المحكم، وأكثر من ذلك، استطاع أن يفرض إطلاق سراح جميع الموقوفين، مع حلول المساء، ليربح جولة جديدة في معركة طويلة.
وأفادت بعض المعلومات انه، خلافاً للتعليمات التي واكبت الحراك المدني منذ انطلاقته في الشارع، صدرت أمس أوامر واضحة الى القطعات المعنية في الأمن الداخلي بتوقيف من تصنفهم القيادة بـ «مثيري الشغب والفوضى والمعتدين على القوى الامنية»، واستعمال الحزم في ضبط الشارع ومنع إقفال الطرق ومعترضي المواكب، ولو بالقوة.
ووفق المعلومات، سبق أن جرى رصد بعض الوجوه التي صُنّفت في خانة «الوجوه المحرّضة على الشغب» حتى أصبح لدى الاجهزة الامنية «داتا» في هذا الشأن، وهذا ما يفسّر أن التوقيفات طالت متظاهرين محدّدين.
ولئن كان المحتجون في الشارع قد اكتسبوا شيئا من المناعة في مواجهة القمع الرسمي، إلا ان الاختبار الاصعب، ربما، الذي تعرضوا له أمس، تمثل في محاولة استدراجهم الى مواجهة جانبية مع مجموعات هاجمت مكان الاعتصام والتظاهر في ساحة الشهداء ردا على تعرض أحدهم للرئيس نبيه بري، الأمر الذي كاد يقود الى المحظور، لولا تمكن الطرفين من احتواء «الاشتباك».
وليلا، أكد وزير الداخلية نهاد المشنوق في تصريح لتلفزيون «المستقبل» ان هناك مبالغات في الكلام حول استخدام مفرط للقوة ضد المتظاهرين، مشيرا الى ان الامر لا يتعدى حدود أخطاء بسيطة قد تكون وقعت، وموضحا ان إصابات سقطت في صفوف العناصر الامنية. وأضاف ان بعض المتظاهرين يبحثون عن أحد لكي يضربهم وانهم يريدون دماً في الشارع.
ولفت الانتباه الى ان الأمنيين تعرضوا لشتائم شخصية غير مقبولة من بعض المتظاهرين، معتبرا ان حجم الحراك بات محدودا جدا وبعض المنخرطين فيه يريد أن يظهر بصورة المعتدى عليه، ومؤكدا أن حق التظاهر والتعبير السلمي مصان، بحماية القوى الأمنية، ولكن لا يجوز استخدام هذا الحق للإساءة الى هذه القوى وشتمها.

الحوار الموسع.. والثنائي
وفيما كان الشارع يغلي، كانت طاولة الحوار على بُعد أمتار تغوص، بعد أكثر من عام على الشغور الرئاسي، في نقاش مستفيض حول المعايير التي يجب الاحتكام اليها في اختيار رئيس الجمهورية، وصولا الى مسائل أخرى تتصل باتفاق الطائف وما يتفرع عنه.
وإذا كانت جميع المؤشرات توحي أن «الطاولة» لن تحقق نتائج إيجابية قريبا، فإن الجلسة الـ18 من الحوار الثنائي بين تيار «المستقبل» و «حزب الله» برعاية الرئيس نبيه بري في عين التينة، حققت تقارباً حيال تسوية في ملف ترقية الضباط، من شأنها أن ترضي العماد ميشال عون.
وتلحظ هذه التسوية التي نالت القبول المبدئي من الحزب و «المستقبل» مخرجاً قانونياً يتعلق بالمرسوم التطبيقي الذي لا يزال ساري المفعول بالنسبة الى عديد الألوية البالغ ثمانية في الأساس، بينما العدد حاليا هو خمسة، حيث لم يمانع الطرفان - وفق مصادرهما - في العودة الى الرقم الأساسي (8) وبالتالي تعيين ثلاثة أعضاء جدد ينضمون الى الخمسة الآخرين في المجلس العسكري، ويكون من بينهم شامل روكز.
وأبلغت أوساط مطلعة على مجريات حوار عين التينة «السفير» أن وفد «حزب الله» أبلغ وفد «المستقبل» انه لا يمانع في هذه الصيغة إذا كانت تحظى بموافقة عون، لكن المطلوب حسمها نهائيا من خلال التواصل المباشر بين «المستقبل» و «التيار الحر» الذي هو المعني الأساسي بملف التعيينات والترقيات، على أن يصدر القرار عن مجلس الوزراء.
وقالت مصادر على صلة وثيقة بهذا الملف لـ «السفير» ان على السلطة السياسية ان تتخذ القرار الذي تراه مناسبا، وتتحمل مسؤوليته.
أما الحوار الموسع في ساحة النجمة، فقد أفضى في جلسته الثانية الى تظهير واضح لخلافات عميقة في النظرة الى المواصفات التي يجب أن يتحلى بها الرئيس المقبل.
ويمكن فرز اتجاهات المتحاورين على الشكل الآتي:
فريق يمثله تحالف «التيار الحر» و «8 آذار» اعتبر ان الرئيس القوي هو بالدرجة الاولى صاحب الصفة التمثيلية في بيئته، في إشارة الى أفضلية العماد ميشال عون على غيره من الأسماء.
وفريق يضم تحالف «14 آذار» رأى أن الرئيس القوي هو «حامي الدستور»، والقادر على جمع الأطراف السياسية، فيما اختصر الرئيس فؤاد السنيورة هذه المعادلة بالقول إن هناك حاجة الى رئيس توافقي يعكس «القوة الناعمة» من خارج اصطفافي «8 و14 آذار»، ويكون مقبولاً في بيئته.
وردا على السنيورة، أكد النائب سليمان فرنجية ان الرئيس يجب أن يكون ممثلا للمكوّن الذي ينبثق منه، مع انفتاحه على المكونات الاخرى، ولا مشكلة في انتمائه الى «8 أو 14 آذار»، ما دام انتخابه سيخضع في نهاية المطاف الى التوافق.
وبينما حذر السنيورة وآخرون في «14 آذار» من محاولة الانقلاب على «الطائف»، قال فرنجية: إذا كنتم حريصين على الدستور الى هذه الدرجة، فإن هذا الحرص لا يكون استنسابيا وانتقائيا، وبالتالي لا يمكن تعديل الدستور لانتخاب موظف لرئاسة الجمهورية.
ونفى رئيس «كتلة الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد وجود نية لنسف «الطائف» متهماً الطرف الآخر بالاستنسابية في تطبيقه، «وعندما تجدون أنفسكم محشورين ترفعون لواء الدفاع عنه».
وشدد ممثل العماد عون الغائب، رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل على ضرورة العودة الى الشعب، متوقفا عند تجاهل الأكثريتين الشعبيتين والنيابيتين اللتين حصل عليهما عون في انتخابات 2005 و2009.
وطرح رئيس حزب الكتائب سامي الجميل نظرية «الرئيس الإداري» الذي يستمد قوته من دعم القوى السياسية له، بينما ركز رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي أسعد حردان على رئيس يخوض غمار الإصلاح السياسي ويطبق البنود الإصلاحية في «الطائف» وفي طليعتها وضع قانون انتخاب يعتمد النسبية على أساس الدائرة الواحدة.
وجرى البحث في الأصول الدستورية المتصلة بانتخاب رئيس الجمهورية، إذ طالب أقطاب «14 آذار» بالنزول الى مجلس النواب وترك اللعبة الانتخابية تأخذ مداها، بينما شدد أقطاب «8 آذار» على أنه من غير المقبول ان ننتخب أيا كان ولا بد من تفاهم مسبق قبل النزول الى المجلس.
وكرر المتحاورون دعم الحكومة، خصوصا بالنسبة الى الجهد الذي تبذله لمعالجة أزمة النفايات.
وقالت مصادر المتحاورين لـ «السفير» إن أجواء الجلسة الثانية كانت أفضل من الاولى ولكن المشوار لا يزال طويلا، لافتة الانتباه الى ان وظيفة طاولة الحوار هي تحضير الارضية لملاقاة التسوية الاقليمية متى حصلت.
واعتبرت المصادر أن التفاهم الداخلي سيتم في النهاية على أساس السلة الواحدة التي تجمع بندي الرئاسة وقانون الانتخاب، بمعزل عن التراتبية في جدول الأعمال