بينما العراق يحترق في نار الدولة الإسلامية الإرهابية التكفيرية وأخواتها أو إخوانها الإرهابيين يحرص وزير خارجيته ابراهيم الجعفري على انشاءات مدرسية تعكس همومه و هواجسه ولكنها لا تتعلق بمنصبه كوزير خارجية لبلد تعيش أصعب ظروفها خلال تاريخها بعد الاستقلال ، حتى يمكننا القول بأنّ تلك المذكرات أو الإنشاءات التي يتعود الوزير الجعفري على كتابتها أسبوعيا لا تناسب هموم الصحافيين السياسيين فضلاً عن الرجال السياسيين .
صحيح أنّ إبراهيم الجعفري لم يدرس السياسة ولا الدبلوماسية دراسة أكاديمية ويحمل شهادة دكتوراه في الطب كما نظيره الإيراني السابق علي اكبر ولايتي ولكن ينبغي أن يخصص الجعفري وقتاً قليلاً لقرائة مذكرات وزراء خارجية سابقين .
إن نظرة عابرة على ما يكتب الجعفري من مذكرات وتحليل مضامين مذكراته يُظهر بأنّه يعيش في عالم آخر لا صلة له بعالم الواقع في العراق والمنطقة عموماً.
فهذا ابراهيم الجعفري يكتب من ضفاف النيل مذكراته ليس فيما يتعلق بالدبلوماسية والسياسة الخارجية العراقية ولا فيما يتعلق بمعاناة اللاجئين العراقيين في مصر فضلاً عن معاناة المشردين العراقيين الذين يحاولون اللجوء إلى عالم أحلامهم في أوروبا بل إنه يكتب عن نهر النيل بأنه " هو الأطول من أنهار العالم أكثر 6600 كم ... وهو الوحيد الذي يتجه من الجنوب إلى الشمال ... وهو في منبعه ومع تشاطئه في مجراه ونهاية مصبه يمتاز بخصوصيات ... بذلك يعكس حضارةٌ عبر التاريخ ... أخذ في الإرث والتراث والتاريخ حجماً من الأهمية تتوّج بذكره بالقران الكريم ... وتضمّن إعجازاً لرسول الله موسى عليه السلام يوم انفلق له ... ويذكّر بملحمة إغراق فرعون في البحر يوم طغى ... الذي ادّعى زيفاً وغروراً "أنا رَبُّكُم الأعلى" ... حضارة النيل متجذرة في تاريخ مصر تجذّر منابعه ... وممتدةٌ امتداد شواطئه ... وهي ثاني أجنحة الحضارة التي حلّق بها طائرها في سماء التاريخ بعد العراق ... (بدأت الحضارة المصرية في حوالي العام 3150 ق.م ) ... (فيما بدأت الحضارة السومرية في العراق عام 3500 قبل الميلاد تقريباً) ... لقد ألهم النيل خيال الشعراء والفنانين ؛ والكتاب والسياسيين ؛ ليلصقوا مصر بالنيل ؛ والشعب بالوطن ؛ والخيرات بالفكر والقيم ... ضفاف كل نهر تقرع أجراساً بآذان حاضريه على امتداد ضفافه ... حركة مقترنة بالحياة تتواصل على مرّ الزمن ... سطحٌ يبدو واضحاً على مدى اتساعه لطالما شدَّ ناظريه واستقطب عشّاقَه رغم بعدِهم عنه ... وهو عمقٌ لا يسبر أحدٌ غوره ... وكثيراً ما ابتلع ضحاياه ... يلتقيه رواده سويعات في حركةٍ ما توقّفت لأكثر من ستة آلاف وست مائة عام حتى عامنا هذا ... إن طوله بآلافه الستة من الكيلومترات ثابتة لن تستطيل ... لكنّ زمنه آخذاً بالإستطالة إلى حيث يشاء الله ... صوته لم يهدأ بخريره ... وحنجرته لم تبح بزئيره ... أطلق صوته في فضاء شواطئه وبعث الحياة في الميّت من أراضيه ...".
ثم يتعرج الجعفري إلى موقع مرشد روحي ليتحدث عن الأجواء الدينية والروحية في مصر الذي " احتضن أصوات تراتيل مقرئي القران الكريم وتواشيح من غنّوا لرسول الله (ص) وآل بيته (ع) ... أو عزفوا ألحاناً داعبت ميول الفطرة وتحاشت إثارة الشهوة والخفّة ... ربما يَهِيجُ أحياناً فيُهدِّد ويُهيِّجُ مشاعرَ من الذكريات فيُحزن أو يُسعد ... يهب الحياة لنفوسٍ ميتة الإحساس فترهف ... مثلما تهب أمواجه أسرار جمالٍ خلّاب لتلقى أصداءها من داخل النفس ... فتكتسب هدوءا لا يتعكر وثقةً لا تتزعزع ... يلتقي من منابعه المتعددة ليتسع ويعمم خيره ويتحد بأبيضه وأزرقه ليضطلع متوحداً ...".
ثم يتطرق الوزير العراقي عن "جمال النيل ومتعة النظر إليه وأنس الرفقة لمن اُصطحبوا ، تتكامل مع جمالات العبور للجمال التاريخي لزمن محمد علي باشا والجمال الثقافي الذي اتّسع لكثير من الافاق وما أوسَعه !!
هي هذه الثقافة فيها مسؤولية عطاء لمن يصدق بالحديث ويتكلم كمعطٍ ولذة اصغاءٍ لمتلقٍ ... رائعٌ مثل هذا اللقاء تمتزج فيه روعة الأفكار وروعة المشاعر والحس الرهيف مع روعة النظر وبذلك انقضت قرابة الساعتين الاثنتين بدورتين بعدّاد ساعة الزمن لكنها لم تستغرق الا دقائق بساعة النفس وعدّاد الأحاسيس ... ".الحق مع وزير الخارجية العراقي إذ يعتبر أن الساعتين اللتين قضاها في النيل لم تستغرق إلأ دقائق، بساعة النفس ! لطيف جداً تقييم ساعات العمر بتوقيت النفس !
وهنيئاً لوزير الخارجية العراقي نزهاته وجولاته السياحية، تحت غطاء زيارات دبلوماسية، كما لديه نهم للمشاركة في الندوات والمؤتمرات التي لا تشارك فيه أي دبلوماسي ، وعلى سبيل المثال شارك الجعفري في مؤتمر لعلماء المسلمين في مدينة قم الإيرانية بينما نظيره الإيراني محمد جواد ظريف كان يخوض غمار الصراع مع ستة من نظرائه في فيينا وجنيف مفضّلاً مصالح بلاده على استجابة متطلبات النفس !
لماذا لا يذهب الجعفري ليمكث عند نظيره الإيراني ليمكث عنده شهوراً لتعلم الدبلوماسية وتدربها على يده؟ علّه يفهم بأن الكتابة عن ساعات النفس خلال جولته السياحية على ضفاف النيل، عيب على وزير الخارجية العراقي بينما بلده تحترق في النار ويعيش أهل أسوء الأحوال.
ولمن يودّ قرائة المتبقى من مذكرات وزير الخارجية العراقي الثرثرية من زيارته الأخيرة لمصر، أن يستمر في القرائة إن يطيق :
"حان وقت الرحيل وانا على موعدٍ مع أحبائي قرّاء "رسائل الاسبوع" ... تمنّى عليَّ أحدُ الحضور الأعزاء ونحن بعدُ في جلسة العشاء أن تكون الرسالة عن النيل وقد أصاب ... وشرعت بلحظتها بالكتابة وعلى ضفاف النهر فانسابت الرسالة مناحي النيل ... لأُتمَّها من وحي دجلة وعلى ضفافه ... الماء هو الماء اسيوياً كان كما هو دجلة أو أفريقياً كما هو النيل شماليّ المنبع وجنوبي المصب كما هو دجلة أم جنوبي المنبع وشمالي المصب كما هو النيل ... هذا هو الدرس التكويني " فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ " ... المهم: الماء هو الماء وهو سرّ الحياة ... من أي مكان ينبع وبأي اتجاه يمشي وفي أي جهةٍ ينتهي ..."ذكرناكم بالدعاء الجعفري"