لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم الثامن والسبعين بعد الأربعمئة على التوالي.
في الوقت الذي يتبلّغ فيه لبنان من برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة قرار التوقف عن دفع 13 دولاراً أميركياً شهرياً لكل لاجئ سوري مسجل ضمن برنامج مفوضية شؤون اللاجئين في لبنان اعتباراً من الشهر المقبل، يحل رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون ضيفاً على لبنان لساعات قليلة.
لا حيثيات لبنانية لزيارة كاميرون. عنوانها قضية اللجوء السوري، أما أسبابها، فبريطانية داخلية بحتة. من جهة، هناك ضغط الشارع البريطاني الذي تظاهر بمئات الآلاف بعنوان اللاجئين، ومن جهة ثانية، محاولة تفادي الضغط المتصاعد من حزب العمال البريطاني في ظل قيادته اليسارية الجديدة.
وفور انتهاء أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، يستقبل لبنان رئيس فرنسا فرنسوا هولاند. المفارقة في هذه الزيارة أنها الأولى من نوعها منذ الاستقلال في ظل الشغور الرئاسي، لا بل إن هولاند عندما زار لبنان في تشرين الثاني 2012، غداة استشهاد اللواء وسام الحسن، حرص أن يلتقي في تلك الزيارة الخاطفة فقط رئيس الجمهورية ميشال سليمان، برغم تبلّغ الدوائر البروتوكولية الفرنسية رغبة رئاستي المجلس (نبيه بري) والحكومة (نجيب ميقاتي) حرصهما على الاجتماع به في القصر الجمهوري، غير أن دوائر الإليزيه أصرّت على «الحصرية الرئاسية» وقتذاك.

هذه المرة، يأتي هولاند أيضا لأسباب فرنسية وأوروبية نتيجة الضغط المتزايد في الشارعين الفرنسي والأوروبي على خلفية قضية اللاجئين السوريين، لكنه قرّر التعويض عن غياب الرئيس بلقاء حصري مع بطريرك الموارنة، بعد اجتماعين يعقدهما مع كل من رئيس المجلس نبيه بري ورئيس الحكومة تمام سلام!
وعلى جاري عادة اللبنانيين، ثمة من همس في أذن السفير الفرنسي الجديد في بيروت ايمانويل بون الذي كان قد رافق هولاند قبل ثلاث سنوات وأعدَّ برنامج تلك الزيارة (3 ساعات)، وسأله عن كيفية إعطاء بعد رئاسي لبناني للزيارة، وعن إمكان توجيه دعوة إلى عدد من القيادات المارونية وخصوصا العماد ميشال عون لزيارة فرنسا. لم يتردد بون بالمحاولة، ولذلك، سأل العماد عون عما إذا كان يرغب بلقاء هولاند قبل زيارة الأخير للبنان، فسارع «الجنرال» للقول إنه لا يرغب بالقيام بتلك الزيارة، وانتهى الأمر عند حدود التقرير الديبلوماسي المقتضب الذي رفعته السفارة الفرنسية حول فشل المحاولة ـ الكمين!
وعندما سأل المحيطون بالعماد عون عن سبب إجهاض المبادرة الفرنسية، أجاب أن ذاكرته ما زالت حية ولن تنطلي عليه خديعة الرئيس التوافقي مجددا، «فالرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي تحدث معي على مدى أكثر من ساعة أثناء مؤتمر الدوحة، وأقنعني بأنه بمجرد قبولي بانتخاب قائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للجمهورية سأتحول ليس إلى «صانع رؤساء» وحسب بل إلى رئيس ظل لمدة ست سنوات.. فماذا كانت النتيجة» يسأل «الجنرال»؟
ليس خافياً على أكثرية السياسيين، ومن معظم الاتجاهات، أن الانتخابات الرئاسية مؤجلة حتى إشعار آخر، لا بل إن مجريات الجلسة الحوارية الأولى يوم الأربعاء الماضي، في مجلس النواب، بيّنت حجم التباعد الداخلي، «وبالتالي ضرورة الانتقال سريعاً الى بند آخر، وتحديداً ما يتصل بإعادة تفعيل مجلس الوزراء وفتح ابواب مجلس النواب وصولاً الى تحول هيئة الحوار الى هيئة للبت بالقانون الانتخابي العتيد» على حد تعبير أحد أقطاب الحوار.
وعلى طاولة الحوار، تبرز أكثر من وجهة نظر: أولى، تقول بأن وظيفة المتحاورين هي تقطيع الوقت في انتظار بلوغ قطار التسويات الاقليمية المحطة اللبنانية، وعندها يركب الجميع القطار، ويكون لهم رئيسهم الآتي على صهوة قرار اقليمي ـ دولي، وهي وجهة نظر يميل اليها عدد من المشاركين في الحوار وأبرزهم الرئيس نبيه بري والنائب وليد جنبلاط. ويزيد بري على ذلك قناعته بأن التفاهم السعودي ـ الايراني حتمي والمسألة فقط «مسألة وقت»، خصوصاً بعد تسييل التفاهم النووي في الكونغرس الأميركي ومجلس الشورى الايراني في تشرين المقبل.
أما الثانية، فلا ترى رئيسا للبنان بمعزل عن التسوية السورية، فاذا تم توسيع قاعدة المشاركة في السلطة (الحكومة السورية الأولى بعد التسوية) على حساب صلاحيات رئاسة الجمهورية، فإن أية تسوية في لبنان، ستلحظ المعطى السوري، وعندها ترتفع أسهم «الرئيس القوي» لبنانياً، خصوصا اذا تمكن الروس والايرانيون من تثبيت الرئيس بشار الأسد في المرحلة الانتقالية وبعدها، ومن أبرز المنحازين الى وجهة النظر المذكورة العماد ميشال عون وحلفاؤه المسيحيون.
وتقول وجهة النظر الثالثة بأنه لن يكون للبنان رئيس لا من 8 ولا من 14 آذار، وعلينا ألا نفوت الفرصة اللبنانية، طالما أن الكل يفضل استمرار «الستاتيكو» اللبناني على تحمل أي خيار رئاسي أو غير رئاسي ليس خياره، واذا تلقفنا هذه الفرصة، نحمي الاستقرار ونعيد الاعتبار للمؤسسات والدستور، ومن أبرز رافعي لواء هذه المعادلة «تيار المستقبل» ومعظم حلفائه المسيحيين في «14 آذار»، وهم يهمسون بعدد من الأسماء الوسطية الأكثر تداولا في الوسط السياسي.
واللافت للانتباه أن موسكو أقرب من أي وقت مضى الى الخيار الثالث وهي أبلغت طهران خلال زيارة قام بها نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف الشهر الماضي ضرورة انتخاب رئيس لبناني توافقي. وقال المسؤول الروسي لنظيره الايراني حسين أمير عبد اللهيان إن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أبلغ نظيره اللبناني جبران باسيل في حزيران الماضي رسالة روسية في هذا الاتجاه.
وثمة وجهات نظر أخرى لعل الأكثر تميزا بينها تلك التي تدعو «تيار المستقبل» على طاولة الحوار الى تقديم تنازلات للعماد ميشال عون في القانون الانتخابي، طالما أن موضوع الرئاسة مؤجل، لأن أي تأخير سيجعل الثمن مضاعفا لاحقا، أي أن ما يرضي «الجنرال» انتخابيا اليوم لن يرضيه وباقي حلفائه في المستقبل، وعندها يصبح السؤال أية صيغة يمكن أن تطمئن عون وفريق «8 آذار» بعد أن توضع سوريا والمنطقة على سكة محاربة الارهاب ويكون مطلوبا من «حزب الله» العودة الى «الداخل اللبناني»؟
ولا يضع ديبلوماسيون عرب في لندن وباريس زيارة كاميرون أو هولاند أو سواهما من المسؤولين الأوروبيين الى لبنان والمنطقة، الا في خانة القول «إن الهدف من التركيز على قضية اللاجئين هو الضغط لتسريع الحل السياسي في سوريا».
في هذا السياق، ليس مستبعدا بالنسبة الى أوساط عربية في العاصمة الأميركية أن تتكثف الزيارات الأميركية الى لبنان «دعما للحكومة ورئيسها وحفاظا على آخر معقل للشرعية وتفاديا لوقوع لبنان في الفراغ الذي يؤدي الى زعزعة الاستقرار فيه».
لا يمنع ذلك من القول إن لبنان رئاسة واستقرارا ولاجئين بات مطروحا على جدول أعمال «الأمم». كل اجتماعات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخيرة مع عدد من القادة والمسؤولين العرب في موسكو تطرقت الى الوضع اللبناني. القمة الأميركية ـ السعودية احتل الملف اللبناني حيزا بارزا فيها وخصوصا عبر التشديد على أهمية أن ينتخب مجلس النواب رئيسا جديدا «وفق الدستور». باريس لم تعد خارج هذا السياق، برغم «احباطها» مما خلصت اليها محاولاتها الايرانية، وخصوصا انها تبلغت كما مسؤولين دوليين آخرين اللازمة الايرانية ذاتها: نؤيد من يتوافق عليه المسيحيون لرئاسة الجمهورية... وعندما قيل لمسؤول ايراني إن هذا الكلام الديبلوماسي لا يمكن صرفه كان الجواب: «لماذا لا يتوجه القادة الموارنة في لبنان الى الفاتكيان وهناك يقفلون الأبواب عليهم ولا يعودون من روما الا عندما يتصاعد الدخان من الكرسي الرسولي!
اليوم جولة جديدة من الحوار في عين التينة بين «حزب الله» و «المستقبل» لن تخرج بأية مفاجآت. غدا جولة ثانية من الحوار في مجلس النواب لن تأتي بأي جديد وربما تشهد بداية تراجع حضور «الصف الأول». أما مجلس الوزراء فمستمر في اجازته الى ما بعد رحلة رئيس الحكومة الى نيويورك.. وزيارة هولاند الى بيروت!