جعفر الشايب
لعله من المؤكد أن تكون المنطقة العربية هي أكثر المناطق في العالم التي تشهد تحولات وتغيرات متواصلة وغير محسوبة، كما أنها أيضاً أصعب المناطق التي يمكن التنبؤ بمستقبل ما يجري فيها. ولهذا فإن أحداثها المستقبلية تقوم على الفرضيات والاحتمالات التنبؤية وليس على أساس علمي مدروس أو مسارات واضحة.
هل كان يتنبأ أحد في العام الماضي بقيام «داعش» واحتلاله مساحات جغرافية واسعة وممارسة كل أشكال التنكيل والإرهاب، والعمل على إقامة دولة «إسلامية»؟، وهل كان متوقعاً أن تحدث مفاجآت اليمن من توسع الحوثيين وتحالفهم مع عدوهم علي عبدالله صالح وإعلان الحرب من قوات التحالف؟.
عديد من الأحداث والتحولات تمر بصورة مفاجئة وليست لها أرضية واضحة، والسيولة السياسية القائمة في المنطقة تفتح المجال أمام كل الخيارات الممكنة التي يصعب التكهن بها. لا سبب في ذلك إلا أن النظام السياسي العربي غير المستقر هو من أوجد هذا الفراغ في بناه التنظيمية وفي علاقاته الداخلية والخارجية.
فغياب المؤسسات الدستورية تجعل قرارات التغيير والسياسات العامة للدولة خاضعة للمزاج الفردي، كما أن القصور في التنظير الاستراتيجي وبلورة الرؤى والبرامج المستقبلية يجعل الممارسات آنية وانفعالية ولحظية.
في مؤتمر شاركتُ فيه مؤخراً خُصِّص للنقاش حول «الواقع العربي إلى أين؟»، وحضره جمع من المتخصصين في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية، لم يستطع أحد من مقاربة الوضع المستقبلي للمنطقة بصورة تمكِّن من تلمُّس الأوضاع المستقبلية.
حالة التشاؤم والنظرة السوداوية للمستقبل هي التي تسود في أحاديث الخبراء، مع تصوُّر أن المنطقة ستشهد مزيداً من حالات التفكك والتشرذم والتشظيات على صعيد البنى السياسية والاجتماعية. ومن العوامل المؤثرة في ذلك إشكاليات بنية الدولة العربية العاجزة عن إصلاح ذاتها، ونمو طبقات اجتماعية مؤثرة ولديها طموحات كبيرة، والانبهار بتجربة «داعش» والجماعات المنفلتة من السلطات المركزية، وتصاعد التجاذبات الطائفية والمذهبية، وتعاظم دور القوى الإقليمية في سعيها لمد نفوذها، وتأثير الصدمات الاقتصادية على الاستقرار.
إن ما يتخذ من إجراءات حالية ومؤقتة قد يساهم في تأجيل أو تأخير التداعيات المدمرة، ولكنَّ قليلاً من هذه الخطوات يمكن أن يُحدِث تحولاً إيجابياً وتحصيناً حقيقياً في الواقع الهش الذي نعيشه؛ فلاتزال القوى الظلامية تهيمن على مقدرات الأمور وتتحصن بأنماط تفكيرها التقليدية والمحافظة، وترفض أي توجهات للتحديث والإصلاح والتغيير الحقيقي.
إن القلق من المستقبل نراه ونقرؤه في أعين الجيل المقبل من الشباب الذي يشهد تهاوي الأوطان، ومحدودية الفرص وعدم تكافئها، والهروب الجماعي والنزوح نحو البلاد الأجنبية الآمنة، وفقدان الأمان وغياب الاستقرار.
لا شك أن أمامنا طريقاً طويلاً، ومستقبلاً لا يزال مجهولاً، ومصاعب وتحديات كبيرة، تحتاج إلى جهود ومبادرات جادة ومتواصلة، وتخطيط ناضج وسليم، وإرادة جماعية تجمع الشتات وتنظم العلاقات البينية، وتوظف الإمكانات المتاحة بصورة مسؤولة.
كلنا مسؤولون عن رسم خريطة جديدة وسليمة لمستقبل منطقتنا، وكل منا يمكن أن تكون له إسهامات في معالجة أجزاء من المشكلة، وفي وضع لبنة في طريق البناء والأمن والاستقرار والتعايش.