الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند سيرسل طائراته لضرب مواقع «داعش» في سوريا، بعد عام من جعل المعركة مع «داعش»، تقتصر على حدود أبو بكر البغدادي العراقية، كي لا يستفيد من تلك الضربات الجيش السوري والرئيس بشار الأسد!
والرئيس الفرنسي سيعاين القصر الرئاسي اللبناني في غضون ثلاثة أسابيع ليجده غارقا في الفراغ والعتمة بسبب عجز اللبنانيين منذ 471 يوماً عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وإذا كان حظه جيداً، فقد تتزامن زيارته والحراك السياسي المتمثل بانطلاق جلسات الحوار الوطني في مجلس النواب التي باركها الفرنسيون، والحراك المدني الذي يأمل المجتمع الدولي أن يؤدي إلى كسر الركود السياسي والدفع باتجاه تسوية رئاسية لبنانية.
في الوقت نفسه، من المبالغة القول إن الفرنسيين قد يبدأون يوما ما الحديث مع الرئيس بشار الأسد، ولكن الانعطافة الرسمية الفرنسية نحو سياسة أكثر واقعية تجاه سوريا قد تكون بدأت تظهر ملامحها، فالرئيس هولاند في مؤتمره الصحافي في الاليزيه، أمس، لم يمد يده لمصافحة النظام السوري، لكنه مد يده إلى أصدقائه الروس والإيرانيين.
يأتي ذلك في سياق مراجعة للموقف السائد منذ أربعة أعوام، باعتبار أن أي جهد عسكري فرنسي في سوريا، يجب أن يكون موجهاً قبل كل شيء ضد الأسد.
بعد أربعة أعوام من اشتراط مغادرة الأسد منصبه، قبل أي عملية سياسية في سوريا، أصبحت مسألة مغادرة الرئيس السوري خاضعة للتطورات، إذ قال الرئيس الفرنسي «انه لا ينبغي أن نقوم بما يقوي الأسد، خصوصا أن العملية الانتقالية، تعني مغادرة الأسد في وقت ما من العملية».
الانعطافة هي أيضا تجاه حلفاء الأسد. فقبل أشهر عدة، عمل الأميركيون ما بوسعهم لإقناع الفرنسيين، وهم يناقشون في جنيف وفيينا تفاصيل الاتفاق النووي مع طهران، أن يتوقفوا عن تكرار ما قاله هولاند من أن إيران «هي جزء من المشكلة في سوريا، وليست جزءا من الحل». هذه المرة، أدت الضغوط الأميركية إلى تسليم فرنسي بالموقع الإيراني في المنطقة، إلى درجة أن رئيس فرنسا يقول انه «ينبغي العمل مع روسيا وإيران في سوريا». كما أن هولاند سيبدو وحيداً بين حلفائه، في التمسك بموقفه القديم، حيث يهرول البريطانيون للحاق بالموقف الأميركي، والمشاركة في قتال «داعش» في سوريا، فيما بدأ الأتراك أنفسهم، بمراجعة موقفهم من «داعش».
وأكد هولاند أن «فرنسا تعمل من أجل إيجاد حلول سياسية لان المخرج في سوريا سياسي. لذلك نعتبر أنه علينا التحدث مع كل البلدان التي تريد تشجيع هذا المخرج وهذا الانتقال». وأضاف «أعني دول الخليج، وأعني روسيا وإيران والدول الأعضاء في التحالف أصلا».
والانعطافة هي عبر الخروج من حدود توجيه الضربات الجوية في العراق، وبدء عمليات استطلاع تمهيدية في سوريا لأهداف محتملة، قبل الشروع بمرحلة ثانية تتمثل بالمشاركة في العمليات الجوية ضد «داعش» على الأرض السورية، حتى ولو ساعدت تلك الضربات الجيش السوري في حربه ضده «خصوصاً أن داعش نقل غرف عملياته من العراق إلى سوريا حيث يعد لعملياته من هناك ضد العراق، وضد بلدان أخرى بينها فرنسا».
التحفظات الفرنسية قد لا تسقط بسرعة، وينبغي انتظار وقت أطول لبلورتها، خصوصا مع بدء العد العكسي لخروج وزير الخارجية الفرنسية لوران فابيوس من الحكومة، مع بداية العام المقبل، إلى المجلس الدستوري الفرنسي، من دون تكبير الأوهام حول إمكان حدوث تغيير جذري سريع في السياسة الفرنسية تجاه سوريا، ما دام الفريق الحالي الذي يدير الملف السوري يستمر بعمله في «الكي دورسيه» وقصر الاليزيه.
ومع تواضع الإسهام الفرنسي في الحرب على «داعش»، الذي لن يضيف الكثير عسكرياً مع 12 طائرة «ميراج» و «رافال»، 6 منها تتمركز في الأردن، و6 أخرى في قاعدة «الظفرة» الظبيانية، فإن القرار بخوض غمار الحرب ضد «داعش» في سوريا، يبقى مهماً رمزياً وسياسياً في بلد كان أحد أركان الهجوم على سوريا، وبرغم أن أكثر من 90 في المئة من العمليات تقوم بها طائرات أميركية، لم تؤد هي الأخرى إلى حسم المعارك.
وتعكس المواقف الرئاسية الفرنسية الجديدة، نجاح الضغوط الداخلية المستمرة، للقطيعة مع السياسة الفرنسية الماضية التي فشلت فشلاً ذريعاً، في كل رهاناتها على إسقاط الرئيس الأسد، كما تعكس غلبة خيار الاستخبارات الفرنسية الداخلية، الذي يدعو إلى فتح القنوات مع دمشق، إزاء خيار الاستخبارات الخارجية، التي كانت تدعو، ولا تزال، إلى مواصلة الحرب على سوريا، عبر دعم المجموعات المسلحة «المعتدلة»، لإسقاط النظام في سوريا. كما أن النوافذ «السورية» أغلقت كلياً على الفرنسيين، إزاء رفض الأميركيين تزويد الأجهزة الفرنسية بأي معلومات استطلاعية، على ما قاله مصدر فرنسي.
وقال هولاند «طلبت من وزير الدفاع العمل على إجراء طلعات استطلاع اعتبارا من الغد فوق سوريا»، موضحاً أن الطلعات هذه «ستجيز لنا التخطيط لضربات ضد داعش مع الاحتفاظ باستقلالية تحركنا وقرارنا». وأكد أن بلاده لن ترسل قوات برية إلى سوريا. وقال إن «إرسال قوات فرنسية برية إلى سوريا سيكون غير منطقي وغير واقعي»، موضحاً «غير واقعي لأننا سنكون الوحيدين، وغير منطقي لأنه سيعني تحويل عملية إلى قوة احتلال، وبالتالي لن نفعل ذلك تماما مثلما أننا لا نفعل ذلك في العراق».
وجلب تدفق المهاجرين السوريين بالآلاف عبر المتوسط إلى أوروبا، ماء غزيرا إلى طاحونة الداعين إلى تغيير السياسة الفرنسية، وبدء معالجة الأسباب الحقيقية للمأساة، التي ستفرض على فرنسا استقبال 24 ألفا منهم، من بين 120 ألفا قرر الاتحاد الأوروبي فتح الأبواب لهم. وهو قرار صعب مع اقتراب الانتخابات الرئاسية بعد عامين، حيث تقول استطلاعات تمهيدية إن هولاند لن يتجاوز الدورة الأولى، فيما تفوز فيها مرشحة اليمين المتطرف، المعادي للمهاجرين، مارين لوبن.
وهكذا قال هولاند للمرة الأولى إن «المجازر التي يرتكبها داعش في سوريا، هي السبب في تهجير السوريين وعائلاتهم»، مع تجاهل حقيقة أن السياسة الفرنسية والأوروبية عامة، سواء بدعم المعارضة المسلحة، أو بفرض حصار اقتصادي على سوريا، أسهمت هي أيضا في تهجير السوريين.
ويتجه الرئيس الفرنسي أيضا إلى الإطلالة على ملف النزوح السوري من خلال مخيم سوري في لبنان، حيث لاحظ هولاند أن «ثلث المقيمين فيه هم من النازحين السوريين». وأعلن، خلال مؤتمره الصحافي، عزمه على زيارة لبنان، بعد حضوره نهاية هذا الشهر الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
وتقول مصادر ديبلوماسية غربية إن الجهد من أجل تنشيط الملف الرئاسي اللبناني، قد يشهد دفعاً في إطار اجتماع مجموعة الدعم الدولية من أجل لبنان، في نيويورك نهاية الشهر الحالي. ويترأس اجتماع المجموعة الرئيس تمام سلام، فيما قال ديبلوماسي أميركي إن وزير الخارجية الأميركي جون كيري سيحضر الاجتماع إلى جانب وزراء خارجية الدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، وان انتخاب رئيس لبناني، قبل ذاك الاجتماع، «سيؤدي إلى حصول لبنان على دعم اقتصادي وسياسي دولي، ومن دونه، سيكتفي الاجتماع بالدعوة إلى انتخاب الرئيس في أسرع وقت ممكن، وتكرار صيغة دعم سيادة لبنان واستقلاله وحكومته وقواه العسكرية والأمنية».
وفرنسياً، لا يبدو أن باريس تواظب على تحريك الملف الرئاسي اللبناني، خصوصا في ضوء خيبات كثيرة تعرضت لها، بل تبدو كأنها خارج المبادرات التي تتحرك، سواء على جبهة الحل السوري أو اللبناني، وإن كانت تجهد لحجز موقع لها في المشاركة باتخاذ قرارات في ملفات المشرق، مع انشغال الإدارة الأميركية المنتظر بملفات الانتخابات الرئاسية العام المقبل والتي تؤدي عادة إلى إبطاء تدخلها السياسي في الشؤون الخارجية.
ومن المتوقع أن تشكل مشاركة كل من هولاند وسلام في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك مناسبة لعقد لقاء ثنائي بينهما هناك، حيث يراهن رئيس وزراء لبنان على صحوة دولية في التعامل مع ملف اللاجئين السوريين على أرضه، خصوصا أنه تجاوز قدرة لبنان على الاستيعاب.