لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم السبعين بعد الاربعمئة على التوالي.
مع بدء العد التنازلي لعقد طاولة الحوار، بعد غد الاربعاء، تبدو فسحة الخيارات الممكنة أمام الطبقة السياسية ضيقة جدا، بعدما تبدلت قواعد اللعبة التي اعتادت عليها، ولم يعد بمقدورها أن تواصل العبث بمصالح الناس والدولة في ملعب «شاغر»، كان من دون جمهور ومن دون حَكَم.. قبل انتفاضتي 22 و29 آب!
ولكن، ما الذي يمكن أن تضيفه طاولة مجلس النواب الى حوار «تيار المستقبل» ـ «حزب الله»، والذي لم يستطع أن يحقق الكثير مما كان مأمولا، بل ان انتفاضتي آب ساهمتا في تنفيس الاحتقان المذهبي أكثر مما فعلته صورة عين التينة على مدى قرابة سنة؟
وما الذي تستطيع أن تضيفه هذه الطاولة الى حوار «التيار الوطني الحر» ـ «القوات اللبنانية» الذي استطاع ربما ترتيب العلاقة بين الطرفين لكنه لم ينجح في تحقيق تقدم على مستوى الملف المركزي وهو انتخاب رئيس الجمهورية؟
ولماذا سينجح حوار 2015 حيث تعثر حوار 2006 في المجلس النيابي، وحيث فشل حوار قصر بعبدا برعاية الرئيس السابق ميشال سليمان؟
وهل ثمة احتمال واقعي بأن يولد في بيروت «حل توافقي»، بينما تحتدم الصراعات العربية - العربية، والعربية - الايرانية في سوريا والعراق والبحرين واليمن التي ينزف فيها بغزارة الدم العربي الذي أضاع الطريق نحو الارض المحتلة في فلسطين؟
صحيح أن الرئيس نبيه بري أعدّ جدول أعمال مدروساً ومتوازناً، لكن هناك تفاوتاً واضحاً بين المتحاورين في تحديد الأولويات، إذ ان «تيار المستقبل» وحلفاءه يعتبرون ان الانطلاقة الصحيحة تكون في التفاهم على إجراء الانتخابات الرئاسية اولا، بينما يشدد العماد ميشال عون وحلفاؤه في «حزب الله» و «8 آذار» على أن المنهجية السليمة للمعالجة تكون باعتماد واحد من الخيارين اللذين طرحهما «الجنرال» وهما انتخاب الرئيس من الشعب، أو إقرار قانون للانتخابات يليه انتخاب مجلس نيابي جديد يتولى اختيار رئيس الجمهورية.
وإذا كانت شروط التفاهم الرئاسي غير مكتملة بعد، إلا أن الملاحظ هو أن منسوب الاستجابة لمبدأ النسبية في قانون الانتخاب المفترض آخذ في الارتفاع، الامر الذي قد يسمح بفتح «ممر آمن» أمام مشروع إصلاحي للنظام، ربما للمرة الاولى في التاريخ الحديث للجمهورية اللبنانية.. إذا ترفع البعض عن النقاش العبثي حول أيهما أولا: البيضة ام الدجاجة.. رئاسة الجمهورية ام الانتخابات النيابية.
وقد أعطى الرئيس نبيه بري أمام زواره أمس إشارة الى الخطة «ب»، بقوله إنه سيطرح بند رئاسة الجمهورية للنقاش أولا، فإذا تعذر التفاهم عليه، يتم الانتقال الى بند آخر والبناء عليه، «ومن يعلم.. ربما نتفق على قانون الانتخاب وفق النسبية، وبالتالي نحقق من خلاله اختراقا في جدار الأزمة، إذ قد نتوافق على إجراء الانتخابات النيابية، ثم ننتخب على الفور رئيس الجمهورية، وفي هذه الحال نكون قد نجحنا في لبننة آلية الحل، بمعزل عن الخارج».
ولئن كان رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع قد اختار أن ينأى بنفسه عن الحوار اللبناني مفضلا الحوار مع قطر التي وصل اليها أمس، فإن العماد ميشال عون سيجلس الى الطاولة «مدججاً» بدعم شعبي مسيحي كاسح، عكسته التظاهرة البرتقالية الحاشدة التي ستحسّن من ناحية الموقع التفاوضي للجنرال، وستصعّب من ناحية أخرى إمكانية تقديمه تنازلات في هذه اللحظة بالذات.
ولكن الإحراج الذي سيواجه عون بالدرجة الاولى يتصل بحسم تموضعه، والبت في ما إذا كان موقعه الطبيعي هو في الشارع الى جانب المتظاهرين الذين سيهتفون الاربعاء ضد الطبقة السياسية، ام في قاعة الحوار التي ستجمعه مع عدد من رموز هذه الطبقة.
ويعكس قرار جعجع بمقاطعة طاولة الحوار اتساع رقعة التمايز بينه وبين رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري الذي تعاطى إعلامه المكتوب بشيء من البرودة مع مهرجان «القوات» في معراب، في وقت نُقل عن مرجع سياسي قوله: في السابق، كان سعد الحريري هو الزعيم اللبناني الاول في العالم العربي، خصوصا في الخليج، أما حاليا فإن جعجع بات يتقدم عليه، وبالتالي فإن زيارته قطر، وقبل ذلك، استقباله بحفاوة في السعودية بمعزل عن رئيس «المستقبل»، يرمزان الى هذا التبدل في المراتب والأدوار.
ولعل التحدي الأصعب الذي يواجه الحوار هو أنه ينعقد هذه المرة على التوقيت المحلي الذي فرضه تسارع إيقاع الاهتراء الداخلي وصولا الى تخوم الانهيار الشامل، فيما لم تنضج بعد الصفقات الإقليمية - الدولية التي تشكل في العادة «الحاضنة» للتسويات اللبنانية.
وهنا، سيكون المتحاورون أمام خيارين، فإما أن يمتلكوا شجاعة «الفطام» عن الخارج ويثبتوا أنهم يتحلون بقدر كاف من المسؤولية لإحداث كوة في النفق، فتكون هذه فرصة إنقاذ لهم بقدر ما هي فرصة للبنان، وإما أن يفشلوا مجددا في اختبار «إحياء اللبننة» مع ما سيحمله ذلك من تداعيات غير مسبوقة على النظام السياسي وأهله في ظل الحراك الشعبي المتحفز، مع الاشارة الى أنه سبق لبري أن نعى اللبننة، الأمر الذي يدفع الى التساؤل عما إذا كان إحياؤها مجددا يندرج في سياق تقطيع الوقت ام يعبّر عن معطيات جديدة وإيجابية يملكها رئيس المجلس.
ومن المتوقع أن يتردد صدى هدير الحراك المدني بقوة في داخل قاعة الحوار، التي ستكون محاطة بحشد من المواطنين المتمردين على الاصطفافات الطائفية والمذهبية والناقمين على كل المتورطين بالفساد المتمادي.
ولعل الانتفاضة الشعبية، بمعناها العريض العابر للحملات والمجموعات، ستكون الحاضر الأبرز والرقم الأصعب على طاولة الحوار التي لن يكون بمقدورها تجاهل صوت الأكثرية «الصامتة - الصارخة»، وما أفرزته من معنى جديد للأكثرية والأقلية.