لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم الثامن والستين بعد الأربعمئة على التوالي.
نجح العماد ميشال عون في «اختبار تجديد الشباب في الشارع»، وأثبت أنه ظاهرة سياسية ـ شعبية قادرة على تجديد خلاياها، برغم مرور أكثر من ربع قرن على ولادتها، مستفيدا من قدرته على شد عصب شارعه عاطفيا وسياسيا من جهة، ومن وجود «أسباب موجبة»، لبنانيا ومسيحيا، لم يعد بمقدور أحد تجاهلها من جهة ثانية.
ومع التجمع الحاشد لـ «التيار الوطني الحر» في ساحة الشهداء، أمس، يفترض أن تكون رسائل «الجنرال» السياسية قد وصلت إلى «أصحاب العلاقة»، غير أن هذا المشهد السلمي الديموقراطي الحضاري لا يمكن تقييمه بمعزل عما سبقه من حراك مدني توّج قبل أقل من أسبوع بتظاهرة التاسع والعشرين من آب في الساحة نفسها، ومن حراك برتقالي طيلة الأسابيع الماضية بعنوان «الحقوق المسيحية»، مثلما لا يمكن عزله عن محطة التاسع من ايلول الجاري.
لقد اعتقد كثيرون أن ميشال عون لن يجمع أكثر مما تجمع في استقباله «بطلا» عائدا من المنفى في ربيع العام 2005 في ساحة الشهداء، وأكثر مما استقطب من أصوات الناخبين المسيحيين بعد أسابيع قليلة، برغم التهويل الذي تعرض له جمهوره وبرغم محاولات حصاره بـ «الحلف الرباعي» وقبلها بمنع عودته الى لبنان.. لكنه أثبت أنه «تسونامي» قادر على إحداث مفاجآت في المسرح السياسي اللبناني.
أمس تحديدا، وبرغم عمر «الجنرال» الثمانيني وتجربة انخراط «تياره البرتقالي» في مؤسسات السلطة، حكومة ومجلسا نيابيا، منذ عشر سنوات حتى الآن، وبرغم تموضعه السياسي حليفا لـ «حزب الله» ومعه للنظام السوري، وبرغم التصدعات في بيته الداخلي، وبرغم «الفيتوات» التي يتعرض لها في الرئاسة والحكومة والمؤسسات، نجح العونيون في استعادة زخمهم الشعبي، مستفيدين من الزخم الذي يمثله ميشال عون في وجدان فئة وازنة من المسيحيين.
«الاستنفار» يؤمّن الحشد
كانت مسألة الحشد تمثل الهاجس الأكبر لدى «الجنرال» و «التيار» على مدى أكثر من أسبوع. نبشت الماكينة الحزبية كل أرشيفها: المنتسبين الحاليين والسابقين، الوزراء والنواب الحاليين والسابقين، البلديات والمخاتير والمنسقين في المناطق والقطاعات المختلفة، مواقع التواصل الاجتماعي، الاتصال المباشر، التواصل الالكتروني..
في المحصلة، فعل «الاستنفار» فعله، ولم يكن بمقدور «الجنرال» أن يخفي تأثره لا عبر الشاشة، ولا أمام أقرب المقربين اليه، برغم مرضه واختفاء صوته، وهو نام مطمئن البال وفي جيبه رصيد متجدد من الشعبية، بمعزل عن وجهة استخدامها في المرحلة المقبلة.
الأكيد أن ميشال عون سيدخل الى جلسة الحوار في التاسع من أيلول وهو يخاطب الحلفاء والخصوم على حد سواء: من منكم راهن على تسوية خارجية قريبة ستمر بالضرورة على جثة ميشال عون عليه أن يعيد حساباته، ومن منكم اعتقد أن التظاهرات الاحتجاجية على انعقاد مجلس الوزراء هي المعيار، عليه أن يضع في الحسبان أن تظاهرة الرابع من أيلول هي دفعة أولى، ويمكن أن تليها دفعات أخرى.. وصولا الى قصر بعبدا نفسه.
بهذا المعنى، يريد «المسيحي الأول» إحراج الحوار باستعراض قوته في الشارع اذا كانت الشعبية هي المعيار، أما اذا أراد المتحاورون مناقشة جدول الأعمال، فإن عون «جاهز لكل الاحتمالات. البعض منكم ينادي بالرئاسة أولا، فليكن ذلك، لكن بالانتخاب المباشر.. وإلا فلنذهب نحو قانون انتخابي جديد (ركيزته النسبية) وأنا أتعهد أمام جميع أعضاء طاولة الحوار بتوفير النصاب في أول جلسة نيابية للمجلس الجديد بمعزل عن أحجام الكتل النيابية».
بالتأكيد يملك عون «أجندة» سياسية للحوار، وهو لن يكون محرجاً بقبول تشريع الضرورة اذا وُضع القانون الانتخابي واستعادة الجنسية على جدول أعمال مجلس النواب، وسيقبل بإعادة تفعيل عمل مجلس الوزراء اذا أعيد الاعتبار للمبادرة المتعلقة بتعديل قانون الدفاع الوطني لتشريع التمديد لقائد الجيش ولضباط آخرين بينهم العميد شامل روكز.
هذا البعد السياسي، لا يحجب بعداً تنظيمياً داخلياً، فإذا كان العماد عون قد نجح في حياكة ومن ثم إلباس ثوب رئاسة «التيار» الى الوزير جبران باسيل، وسط مناخ اعتراضي تم تبديده بأشكال مختلفة، فإن المشروعية الشعبية التي يمثلها «الجنرال» في الشارعين الحزبي والمسيحي، تم تجييرها، أمس، على الهواء مباشرة، لباسيل الذي بات مطالبا، قبل العشرين من أيلول، باستثمار هذا الرصيد الكبير داخل المؤسسة البرتقالية نفسها، عبر إعطاء إشارات وسلوكيات تشي بقدرته على استيعاب الجميع وأخذهم نحو المؤسسة التي يطمح «الجنرال» لاستمرارها.. وإلا فإن أي سلوك أو ممارسة من نوع آخر، ستؤدي الى تبديد هذا الرصيد بسرعة قياسية، كما فعل كثيرون من قبله، في مؤسسات حزبية لبنانية كثيرة!

الحراك المدني والتظاهرة البرتقالية
ماذا عن تقييم الحراك المدني للتظاهرة العونية؟
لا يمكن مقارنة مشهد الرابع من أيلول البرتقالي في ساحة الشهداء بالتحركات الشعبية (وخصوصا الشبابية) التي سبقته في بيروت في الأسابيع الأخيرة، ولعل البداية من الجهة الداعية للتظاهرة العونية، ومحورها زعيم سياسي طائفي، كما مهرجان الأحد الماضي في النبطية وقداس الغد في معراب، فيما «الحراك» نقيض فكرة الزعيم، أي زعيم، لا بل يجاهر بدعوته الى إعادة الاعتبار للمواطنية وليس للانقياد وراء ست زعامات تتحكم بمفاصل البلد منذ عشر سنوات حتى الآن.
أما النقطة الثانية، فتتمحور حول الجمهور المحتشد في ساحة الشهداء أمس، ومعظمه من أبناء الطوائف المسيحية (الهوية الطائفية أولا)، بينما تمكن الحراك المدني من استقطاب جمهور لبناني غير طائفي وغير مناطقي، ومن شرائح اجتماعية متعددة، وخصوصا ما تبقى من فئة وسطى مهددة بالاندثار ومن بيئة اجتماعية فقيرة تتسع يوما بعد يوم.
وإذا كانت ساحة الحراك المدني قد غطّاها علم وحيد هو علم لبنان، فإن ساحة الشهداء، كانت أمس ساحة حزبية بامتياز، ناهيك عن شعارات وأناشيد وخطابات غلب عليها أيضا الطابع الفئوي، فيما تداخلت المطالب بين هذه الساحة وتلك، وهي إشكالية ستبرز أكثر في التاسع من أيلول المقبل، عندما يجد «الجنرال» نفسه شريكا على طاولة الحوار التي ستكون محاصرة من الخارج بحشد يراد له أن يكون شبيهاً بحشد التاسع والعشرين من آب، وتحت الشعارات نفسها، عندها يصبح السؤال: أي موقع سيختار العماد عون من بين هذين الموقعين؟
ولعل النقطة المشتركة التي يمكن التأسيس عليها هي قدرة الحراكين العوني والمدني على رسم مسار مشترك نحو الانتخابات النيابية، خصوصا أنه قد برز أمس تحول واضح في شعارات «التيار الوطني الحر» مقارنة مع التظاهرات العونية السابقة، اذ بينما كان يتم التركيز سابقا على «حقوق المسيحيين»، كان المطلب السياسي الأساس في تحرك أمس هو وضع قانون انتخابي على أساس النسبية، وهو أحد أبرز مطالب الحراك المدني وخصوصا المجموعات اليسارية فيه، وسيتبلور أكثر من خلال توجيه دعوة الى «التيار الوطني الحر» وكل تيار سياسي آخر يعطي الأولوية للانتخابات النيابية، إلى النزول إلى الشارع في تظاهرة التاسع من أيلول التي دعا اليها الحراك المدني