لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم السادس والستين بعد الاربعمئة على التوالي.
على مقربة من ساحات الحراك المدني في وسط بيروت، أخفق مجلس النواب مرة أخرى أمس في انتخاب رئيس للجمهورية، الأمر الذي أكد من جديد أحقية الحراك ضد سلطة سياسية عاجزة، لا تفوّت مناسبة لإثبات فشلها.
أما وان الشارع التقط أنفاسه قليلا، أمس، في «استراحة محارب»، مستعيدا بعض الهدوء الذي يسبق العاصفة المقبلة، فإن المعنيين على ضفتي الحراك المدني والسلطة، مطالبون بمراجعة التجربة التي وُلدت مع انتفاضة 22 آب، ثم تطورت في الأيام اللاحقة، لتضخ دينامية غير مسبوقة في عروق الحياة السياسية المتيبسة والراكدة منذ سنوات طويلة.
وإذا كان البعض يتساءل عن سر توقيت الحراك في هذه اللحظة بالذات، فإن السؤال الحقيقي الذي يجب ان يطرح معكوس الوجهة، وهو: لماذا تأخر الحراك أصلا حتى الآن، ولماذا لم ينطلق من قبل، ما دام هناك عشرات الأسباب التي تبرر النزول الى الشارع، بينما لا يوجد سبب واحد يبرر الصمت والانكفاء والإحباط.
شغور رئاسة الجمهورية منذ أكثر من عام، التمديد الاول ثم الثاني لمجلس النواب، تجاهل سلسلة الرتب والرواتب، تمادي التقنين الكهربائي، أزمة المياه، إهدار الفرصة النفطية، فضيحة النفايات.. ان كل واحد من هذه العناوين كفيل بإحداث ثورة، فكيف إذا اجتمعت كلها في وقت واحد.
وعليه، ليس هناك التباس حول شعارات الحراك الذي قد يحتمل النقاش في آلياته ومساره، لكن دوافعه ومنطلقاته خارج البحث وتستمد شرعيتها من معاناة الناس ووجعهم.
وانطلاقا من هذا الواقع، لا يجوز الانجراف وراء نظرية المؤامرة وتفسير ما يجري في الشارع على أساسها، لان في ذلك ظلماً كبيراً لعشرات آلاف المواطنين الذين صبروا كثيرا، قبل ان يقرروا ان ينتفضوا على جلاديهم من رموز الفساد.
ولكن في الوقت ذاته لا يصح تجاهل حقيقة ان بعض أصحاب الارتباطات المريبة تسلقوا الحراك وحاولوا حرفه عن سكّته الأصلية، مع وجوب التنبه الى ضرورة عدم اختزال الانتفاضة الشعبية بهؤلاء الذين لا بد من مصادفتهم في كل شارع مفتوح على مصراعيه.
كما أن المحبطين من سلوك فريقي «8 و14 آذار»، وخصوصا منهم بعض «الأقلويين» المحسوبين على الفريق الثاني، يحاولون التسلق على التحرك إما لتصفية حساب أو التعويض عن فشل أو تأكيد الذات والحضور..
وبمعزل عن الملاحظات العديدة والجوهرية على التحرك في الشارع، يمكن القول ان هذا الحراك نجح منذ انطلاقته في صناعة معطيات جديدة، أبرزها:
- تغيير جدول الأعمال الداخلي الذي كان مستغرقا في بنود كلاسيكية ومستهلكة، لتقتحمه فجأة أولويات الناس وهمومهم.
- كسر الحواجز النفسية والمحرمات السياسية التي كانت تكبّل المواطنين وتصنع نوعاً من الحصانة للسلطة وأهلها.
- إرباك الطبقة السياسية التي تخبطت في التعامل مع انتفاضة الشارع منذ بداياتها، فبعضها حاول الصعود الى القطار من محطته الاولى في 22 آب ثم ترجل منه، والبعض الآخر أيد الشعارات المحقة واعترض على أسلوب تحقيقها، وآخرون تبادلوا الاتهامات وتحميل المسؤوليات عما آلت اليه الامور، ثم في مرحلة لاحقة بدا أن «المصيبة» جمعت معظم اتجاهات هذه الطبقة التي راحت تكثر من انتقاداتها للحراك المدني مع مرور الوقت.
- بداية تعديل في موازين القوى التي تتحكم بقواعد اللعبة الداخلية، وهناك من يعتقد أن موج الحراك الشعبي نقل لبنان على الأقل من ثلاجة الانتظار الى مرحلة انتقالية مصيرية. أما الى أين يمكن أن تفضي هذه المرحلة، وبأي كلفة وبأي مدى زمني، فيتوقف الأمر على طبيعة تصرف الأطراف القادرة على التأثير في تحديد اتجاه السير، وهي: التركيبة السلطوية التقليدية، الحراك الشعبي المضاد، والقوى الموجودة ضمن تركيبة الحكم ولكنها تتمايز عنها في السلوك ولا تتساوى معها في الفساد، وبالتالي يمكن أن تشكل «بيضة قبان» في الصراع، تبعاً للخيار النهائي الذي ستتخذه، بعد خروجها من حالة الحيرة والتأرجح.
ولأن المسؤولية باتت بحجم الآمال العريضة التي علقها المواطنون على انتفاضة الشارع، فإن مكوّنات الحراك المدني مدعوة الى مراجعة هادئة لما جرى منذ 22 آب، وتصويب الأخطاء التي وقعت عمداً أو سهواً، خصوصا أن هذا الحراك أصبح ملك الناس جميعا، وبالتالي فهو بات «أمانة» لدى المجموعات والحملات التي تتولى قيادته.
وعلى هذه القاعدة، فإن حملات الحراك المدني مطالبة بالبناء على ما تحقق حتى الآن، والانتقال من حماسة الأيام الأولى الى رصانة النضال الطويل الأمد الذي يتطلب المزيد من التنظيم على الارض، والموضوعية في الأهداف، لا سيما أن المعركة ضد الفساد ستكون طويلة، والفوز فيها سيؤول الى أصحاب النَفَس الطويل.
صحيح أن تعدد الحملات الشبابية هو مصدر تنوع وعنصر غنى، في مواجهة الأحادية والشخصانية لدى رموز الطبقة السياسية، لكن هناك خيطاً رفيعاً بين الحيوية التي ينتجها تعدد الروافد، والفوضى التي يسببها ضعف التكامل أو التنسيق على مستوى التكتيك والاستراتيجية.
ولعل العبرة الأساسية التي يُفترض أن يستخلصها قادة الحراك من خصومهم هي الابتعاد عن نزعة التفرد أو الفردية، تحت تأثير الأضواء ووهج الشارع، مع ما يتطلبه ذلك من تفعيل للإطار التنظيمي الذي يُفترض به أن يتسع لكل الخلافات في وجهات النظر، من دون أن يخسر القدرة على اتخاذ القرار الموحد.
الأمر الآخر الملح هو تجنب الانزلاق على جليد التسرع، والامتناع عن منح هدايا مجانية الى السلطة، من نوع اقتحام وزارة البيئة للمطالبة باستقالة الوزير محمد المشنوق، وهو تصرف لم يتحمس له معظم رموز الحراك المدني.
وفي خضم الشكوى من فساد السلطة بمظاهره المتعددة، يجب عدم إغفال أهمية التركيز على تجفيف منبعه المتدفق، والمتمثل في هذا النظام السياسي الذي يجدد خلاياه عند كل انتخابات نيابية، ما يستدعي خوض معركة شعبية منظمة لفرض إقرار قانون انتخاب عصري، على أساس النسبية الكفيلة بفرز قوى جديدة في الجسم السياسي.
ولأن الطموح يصل الى هنا، فإن المطلوب تحصين الانتفاضة الشعبية وتعزيز مناعتها في مواجهة محاولات الاختراق من خارجها، عبر أجهزة مخابرات أو سفارات مموّهة بستار المنظمات غير الحكومية(...)، ومحاولات استغلالها من داخلها عبر هواة أو أصحاب هويات ملتبسة أو بعض تجار السياسة والنفايات.
إن السطو على فرصة التغيير هو أخطر ما يمكن أن يحصل، الامر الذي يستوجب حمايتها واحتضانها، وهذا لا يكون إلا من خلال «إغراق» الشارع بالجمهور العابر للطوائف والمذاهب، وحثه على تعزيز حضوره في الساحات، وليس تخويفه منها، وهذا ينطبق بالدرجة الأولى على جمهور المقاومة بكل حساسياته وبيئاته.
وبمعزل عن الحسابات التي تتحكم بموقف كل مكوّن من مكوّنات السلطة حيال الحراك الشعبي، فإن الدرس الأساس الذي يجب أن تستخلصه هذه السلطة من تجربة الشارع خلال الأسبوعين الماضيين هو أن استخدام العنف ضد المحتجين لا يفيد في مثل هذه الحالات، بل يعطي مفعولا عكسيا كما أثبتت محطات تاريخية ومعاصرة، انطلاقا من قاعدة ثابتة وهي أن قمع السلطة يؤدي الى تحشيد الناس وتحفيزهم.
لكن التحدي الأهم الذي يواجه الطبقة السياسية المترنحة، يكمن في أن تدرك دلالات الانتفاضة الشعبية، وتتفادى التعاطي معها باستخفاف أو بأحكام مسبقة تضعها في خانة الشبهة، بغية التهرب من الاستجابة لمطالبها الإصلاحية.
هل ستلتقط السلطة رسالة الشارع، قبل فوات الأوان؟
ربما تحمل طاولة الحوار في 9 أيلول الجواب القاطع، مع الإشارة الى ان كلام وزير الداخلية نهاد المشنوق امس حول عقوبات مسلكية وتأديبية لبعض ضباط وعناصر قوى الامن الداخلي لم يرض الحملات الشبابية ولم يشف غليلها.
السفير : السلطة مطالبة بالتقاط رسالة الشارع المتدحرجة قبل فوات الأوان «الحراك» أمام تحدي الوحدة أو الانقسام؟
السفير : السلطة مطالبة بالتقاط رسالة الشارع المتدحرجة قبل...لبنان الجديد
NewLebanon
|
عدد القراء:
403
مقالات ذات صلة
الجمهورية : السلطة تحاول التقاط أنفاسها... والموازنة تفقدها...
الاخبار : السفير الروسي: الأميركيّون يهيّئون لفوضى في...
اللواء : باسيل يتوعَّد السياسيِّين.. ورعد...
الجمهورية : مجلس الوزراء للموازنة اليوم وللتعيينات غداً.....
الاخبار : الحريري بدأ جولة...
اللواء : هل يستجيب عون لطلب تأجيل جلسة المادة...
ارسل تعليقك على هذا المقال
إن المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس بـالضرورة سياسة الموقع
© 2018 All Rights Reserved |
Powered & Designed By Asmar Pro