هي حلمٌ صعب المنال. الحصول عليها في لبنان يحتاج الى استنفار قوى. إنها بكل بساطة، "فرصة العمل" التي يبحث عنها غالبية شباب الوطن ولا يجدونها. وكأنها الهدف الضائع في زواريب السياسة اللبنانية. رزمة الشهادات التائهة في الدرج المنسي غير كافية. الوساطة إذا نجحت، كفيلة بالولاء مدى الحياة. الا ان ثقافة المجتمع اللبناني جعلت الجميع يعتبرها "خلاصاً"، ما جعل منها قيمة نادرة. الدراسات العليا شقٌ جديدٌ للتربع. غزارة شهاداته أثقلت كاهل الفرص، وعتّمت درب من اكتفى بإجازة. المحاربة قد تحتاج إلى "تكتيك" مغاير. الدخول في معترك اختصاصٍ جديد، والحصول على شهادتين جامعيتين بدلاً من واحدة. الا ان رحلة تبوؤ وظيفة لائقة في لبنان لا تزال بعيدة الخطى. آخر مفارق الوصول اليها كان انتفاضة 29 آب الشعبية. فهل في ساحة الشهداء قوارب نجاة؟
نماذج مرعبة
رغم ان الفترة الزمنية النسبية للحصول على وظيفة في لبنان منذ اليوم الاول للبحث عنها تراوح ما بين 6 اشهر وسنة كحدٍّ ادنى، الا ان الحدّ الاقصى يفتح المجال لمزادٍ علني ضخم في التنبّؤ بمدّة البطالة. فرضية ان يستغرق الامر مدى الحياة ليس بمبالغٍ بها. حين تتكلًم النماذج، يتعزز اعتقادٌ مجنون كهذا في الأذهان.
من الهندسة الى الحراسة:
يروي محمد خريج ماجستير في الهندسة المعمارية تجربته المهنية: "البداية كانت حين أنهيت دراستي في الجامعة اللبنانية وبحثت عن وظيفة. اختصر طموحي بالعمل في احد مكاتب الهندسة. الكفاءة لم توصل الى نتيجة رغم حصولي على معدّل عالٍ وانهاء فترة تدرجي التي طالت. كان لا بد من الاستعانة بدعمٍ معيّن. قصدت العديد من الوجوه، البعض منهم صدّني، والبعض الآخر لم يفِ بالوعد". ويشير الى "انني أعمل اليوم كحارس امنٍ امام احدى الشركات واذهل بالعدد الكبير من طلبات التقدم الى وظيفة فيها. حين اخبرهم بما حل بي يزداد سخطهم، واعتقد انه السبب الاساسي الذي دفع بالجميع النزول الى ساحة الشهداء السبت الفائت".
من محامية الى موظفة استقبال:
تشير داليا حائزة على ماجستير في الحقوق الى "انني قررت المشاركة في التظاهرة المطلبية للمطالبة بوظيفة لائقة بعدما انهيت دراستي ولم استطع العمل في نطاق اختصاصي، ولا زلت حتى اليوم مستمرة في العمل كموظفة استقبال في احد الفنادق منذ 7 سنين، حين زاولت هذه الوظيفة للمساعدة في تكاليف الدراسة".
المعلمة بائعة ملابس:
تقول هند خريجة طفولة مبكرة "انني جُلت على عشرات المدارس وتقدمت اليها بطلب توظيف، على رغم كثافة الاعلانات في الجرائد التي تطلب مدرسات، الا انني لا زلت حتى اليوم اتنقل بين متجر وآخر واعمل كبائعة ملابس او كمحاسبة. حين اتقدم بالسيرة الذاتية يسخرون ويحبّذون لو انني درست ادارة الاعمال بدلاً من التعليم".
الدورة الاقتصادية تحكمها الوساطة
يلفت البروفيسور جاسم عجاقة، خبير اقتصادي واستراتيجي الى ان "الحصول على فرصة عمل في لبنان يحتاج قبل كل شيء الى ما يسمى بالوساطة مهما كانت طبيعة الدورة الاقتصادية. لذلك فإن العائق الاول يحتاج قبل الدخول بوجهة النظر الاقتصادية الى التحري ضمن نظام الفساد المستشري في البلد. القرارات الوظيفية المتخذة في القطاع العام، غالباً ما تكون غير منتظمة وعشوائية وهي تفوق بالتالي حاجة الدولة الى التوظيف. اما في القطاع الخاص فتعتبر المصارف القطاع الابرز الذي يطمح اللبنانيون الدخول اليه، الا ان الفرص ليست بمتاحة".
ويؤكّد ان "على المواطن الانتظار سنتين حداً ادنى للحصول على وظيفة مرجوّة لان عدد المتخرجين يزيد سنوياً على 16 الف في حين ان فرص العمل المتاحة سنوياً لا تزيد على 3000 وظيفة. الـحل الوحيد امام البقية، السفر في ظل عدم القدرة على الانتظار مدّة جائرة".
خدمات متقابلة ـ إفراط بالسلطة
يشرح البروفيسور عجاقة "ان مبدأ الوساطة بدوره تحكمه نظرية اخرى اكثر مكراً وهي الاستفادة من فعالية الوساطة. المسؤولون عادةً يؤمنون فرص العمل للذين يمتلكون الدعم من كبار الموظفين في الدولة كالمديرين العامين او لمصالح انتخابية بحتة. الخدمة المقابلة هنا تأتي في عملية تمرير المناقصات والمشاريع لهم مقابل مبالغ مالية ورشوة قيمة ". ويؤكّد ان "منبع الفساد هو القطاع الخاص لانه بحاجة الى خدمات القطاع العام، وهو من يفسده. لذلك فإن الدول المتطورة تمنع على من يتعاطى الشأن العام بتعاطي الشأن الخاص وذلك لعدم الإفراط بالسلطة، كما تراقب حياته المالية من الفها الى يائها لمحاسبته في حال الاخلال بوظائفه لمصالح شخصية".
ويثمّن على "اهمية مفهوم الثقة في الاقتصاد. ان غياب الامن والتأرجح السياسي اضافةً الى عدم تداول السلطة وغياب القوانين المعاصرة والخطط الاقتصادية الاستراتيجية وانتشار الفساد هي العوامل التي تكسر الثقة وهي ما ادت الى تراجع الاستثمارات الاجمالية المباشرة في لبنان بمعدّل 23% في السنوات الاخيرة في حين عادت وارتفعت الى 6% كوتيرة تصحيحية وحسب. تجدر الاشارة هنا، الى ان الاستثمار والاستهلاك هما عامودا الاقتصاد، ولولا مساهمة تحويلات المغتربين في 20% من الناتج المحلي الاجمالي لتحوّل الوضع الى اكثر سوءاً".
على المتظاهرين المطالبة بـ؟
يشدّد البروفيسور عجاقة "على مطلبين اساسيين على المتظاهرين المطالبة بهما للسير نحو الاصلاح وايجاد فرص العمل. الاول يكمن في محاربة الفساد الذي يعتبر الخلل الاجتماعي الاساسي الذي يفتك بنا، حيث نخسر سنوياً نحو 15 مليار دولار من خزينة الدولة هباء. اما المطلب الثاني فيكمن في المطالبة بتداول السلطة وليس بإسقاط النظام كنظام. اقتصادنا رأسمالي حرّ قائم على مبدأ تبادل السلطات ولا شيء يمنعنا اليوم من اجراء انتخابات نيابية. هكذا نتمكن من اعادة الثقة باقتصادنا وجذب الاستثمارات".
الحصول على عمل بدءاً من الغد؟
يقترح البروفيسور عجاقة على المتظاهرين "البحث عن فرص عمل من خلال ابتكار افكار، شركات ومشاريع خاصة، وبذلك يؤمنون مستقبلاً مهنياً جيّداً بدءاً من اليوم. فالتوظيف ليس بالضرورة للخروج من البطالة بل يمكن ان يكون على شكل انشاء عمل خاص كشركة صغيرة او متوسطة الحجم، ترواح اعداد موظفيها بين الـ 1 والـ 50 او من خلال انشاء مشاريع معيّنة".
ويعتبر ان من ابرز الافكار المقترحة في هذا المجال "تكنولوجيا كتابة برامج الكمبيوتر حيث قطاع المعلوماتية هو الاهم اليوم عالمياً، اضافةً الى الخدمات المميزة كإنشاء شركات خاصة لغسل السيارات وتوصيلها من المنزل وإليه. الاستشارات المالية هي ايضاً مفترق مهم ليس على صعيد لبنان وحسب بل يمكن ان يأخذ المفهوم منحىً عالمياً. الصناعات الزراعية التي لا تزال تأخد اليوم وجهاً يدوياً الا انه لا يجب الاستهانة بتحويلها وجهاً صناعياً يساهم في انتشار العديد منها عالمياً كالـ(مربى) على سبيل المثال. الصناعات التحويلية لها ايضاً بابٌ يعوّل عليه".
البعض لا يزال يفتقدها منذ اكثر من عقد رغم انه لبنانيٌ منذ اكثر من عشر سنين. قرب تمثال الشهداء اجتمعوا. الاهداف كثيرة. فرصة العمل في الطليعة. على امل ان لا يكون قارب النجاة... قارباً بحرياً او جوياً نحو الاغتراب.