سيران حايك
كلُّهم على ترابي مشَوا... كُلُّهم.
غرسوا في رِمالي نعالهم علّهم يبقون... لكنّهم رحلوا.
كلّهم رحلوا... وأنا بقِيت.
باقٍ أنا. سليلُ السرمدِ أنا.
أنا لبنان!
بنَوا سُفُنَهم من نَسَرِ سَرْوي، وعلى مياهي راقصوا الحضارة... راقصوها حدَّ العشق، لكنّ عشقَهم رحلْ، ورحلتِ الرقصة، ورحلوا وراءها. كلّهم رحلوا.
كنت يوماً مُشتهًى لأولادِ الفراعنة... كنتُ أياماً موئلاً للفينيقيين وأحفادِهم...
كلّهم تغرّبوا، وفي الغُربة رحيل. رحلوا.
أنا من وطأ أرضي البيزنطيون، وبألحانِهم ليّنوا صَوّاني.
أنا... لبنان!
جاء كُثُر... ورحلَ أكثر.
رحلوا يومَ أَلهَبَ راحاتِهم الثلجُ على صنّيني...
رحلوا بعدما أشعلوا على أرضي حروبَهم، وأنا أتفرّج.
تفرّجتُ كثيراً... فحروبُهم كانت كثيرة.
رحلوا حين ارتطمَ رجالُهم بشعبي، بصخري... وعلى صخري تصبّروا.
فأنا... لبنان. من أنتم؟ أوَلستم أبنائي؟
نفيتموني إلى ثالثِ طبقاتِ العالم، وغابَ عن بالِكم أنني من جعَلَ للحرفِ جسماً.
غابَ عن بالِكم أنّ جُبيلْ، ابنتي أنا،
فأنا... لبنان!
قسَّمتموني ألواناً... ونسيتم، مساكين، أنني مَن اكتشفَ اللون...
فصور... ابنتي أنا.
وأنا... لبنان!
زنّرتموني بشالِ الحداد. أغرقتموني بالسواد، كضمائرِ بعضِكم إن وُجدَتْ،
ونسيتم أنني جرسُ فرح... بل أكثر...
فبَيتُ شباب... ابنتي أنا.
وأنا... لبنان! من أنتم؟
رجوَتم إخفائي، ولم تعوا أنّ سنواتي خُطَّت مُذْ خَطّ العهدُ القديمُ حروفَه،
هو الذي غنّاني خمساً وسبعين مرّة، هو الذي عَشِقَ ترابي من جوفِه، من أعماقِه، "من واديهِ من وَكرِ النَّسْرِ الشاهق"!
أنا... لبنان.
على ساحاتي رسمتم قَرَفَكم. لا يهمّ... سترحلون، وأنا باقٍ أشهدُ على الساحاتِ تَعمَرُ يوماً.
حوّلتم مَرافقي ملفاتِ فساد... لا يهمّ. فثرواتي باقية، والفسادُ يرحلُ برحيلكم.
عاصمتي، تلك التي اشتهاها الشرقُ في صباه، رسمتموها سَجّادةً للفوضى.
لكن... لا يهمّ.
اختنِقوا بنفاياتٍ أمطرتم بها شعبي، وبأريجها تعطّروا. عليكم سأتفرّجْ، ولن أتحسّرْ.
اختنقوا... وأنا سأفوحُ أطيَب من العبير، أجملَ من الورد، أعذب من شقائقِ النعمان.
فأنا هنا على اسم اللُبان. وأنا... لبنان!
غزلتم على أرضيَ الحضارات أم أضرمتم الحروب... أنا أنا، باقٍ هنا.
فعلى هذا الثرى، باتت ليَ من السنينِ ستةُ آلاف، ومُذّاك أنا، كما أنا.
كلّكم ترحَلون... وباقٍ أنا.
أنا لبنانْ!