تأسّست في الحراك الذي شهده الشارع في بيروت مؤخّراً دينامية سياسية هي الأولى في حقبة ما بعد العام 2005.
دينامية يصعب اليوم توصيفها بدقّة أو توقّع مآلاتها، ويمكن في المقابل الحديث عن بعض خصائصها، أو عن بعض المعطيات التي قد تُعين على فهمها.
أوّل هذه المعطيات هو على الأرجح المعطى الجيلي. فالجيل الذي يقود الحراك مكوّن بشكل أساسيّ من ثلاث شرائح. تلك المولود نضجُها السياسي في السنوات الأخيرة، أي بعد تحوّل القسمة الـ8 والـ14 آذارية الى قِسمة معطّلة للسياسة ومكتفية بتقاسم المثالب والتسبّب بالانهيار في مؤسّسات الدولة وفي خدمات مرافقها الرئيسية. وشريحة متناثرة عن المعسكر الـ14 آذاري (بمعناه العريض)، مُحبَطة من أدائه البائس ومن رداءة قياداته وحساباتها الضيقة. وشريحة ثالثة آتية من هيئاتٍ ونقابات وتياراتٍ من المجتمع المدني، لم تنتسب الى أيّ من المعسكرين الآذاريّين وأحزابهما، ولَو أنها كانت أقرب في مراحل معيّنة الى معسكر 8 آذار.
المشترك بين الشريحتين الأولى والثالثة هو حساسيّتها اليسارية اقتصادياً وثقافياً، وعداؤها للحريرية، وهو عداء تدفعه الشريحة الثانية نحو حزب الله (ومعه عون).
والمشترك بين الشرائح الثلاث هو ميلها العلماني، أو لِنقل نبذها الطائفية كمحدّد للانتماءات وللانحيازات السياسية.
ثاني هذه المعطيات هو العلاقة بالمحيط العربي، لا سيما السوري، وأثر ذلك على مستويَين سياسي واجتماعي/سلوكي في الحراك "البيروتي".
على المستوى السياسي، أدّى الموقف من الثورة السورية الى تراجع "هيبة" حزب الله عند فئة من الناشطين اليساريين، المنتمين بمعظمهم الى الشريحتين الأولى والثالثة المذكورتين آنفاً، ممّن كانت "المقاومة" تجذبهم و"تخدّرهم" سياسياً. وهذا جعل تواصلهم مع الشريحة الثانية ممكناً، وجعل شعارات الحراك لا تستثني الحزب وأمينه العام (وإن فعلت أحياناً، فَبسبب الضغط والتهديد المباشر).
وعلى المستوى الاجتماعي/السلوكي، بدا واضحاً التناقض بين "الصورة" البيروتية و"الصوَر" العربية، لجهة حضور النساء الكثيف بين المتظاهرين (ولجهة ملبسهنّ)، ولجهة بعض الشعارات المرفوعة ودلالاتها. والمستوى هذا يدلّ، بعيداً عن أي تغنّ فارغٍ، على أمرَين. الأوّل أن الحرّيات المتاحة في لبنان وغياب القمع (الذي عانى منه المتظاهرون في أكثر الحالات العربية، ووصل حدوده القصوى في سوريا) يُتيح مشاركة نسائية واسعة. والثاني أن ثمة إرادة شاءها المشاركون في الحراك اللبناني لإظهار "مدنيّة" أو علمانية لمظاهراتهم تُناقض الثنائيّات التي يُراد تكريسها عربياً بين "عسكرٍ" و"إسلاميّين متطرّفين". وقد أعانتهم على ذلك تركيبة المجتمع اللبناني وخاصيّة المدينة حيث التظاهرة، بيروت.
ثالث هذه المعطيات هو العودة الى السياسة بوصفها قضايا يومية وقضايا "حقوق مواطنية". وهذا لا ينفي أهمّية القضايا السياسية "الاستراتيجية"، وهي ما زالت خلافية بين اللبنانيين. لكنه يُعيد التركيز على المصالح وعلى الحقوق ويدفع لرفض الشبكات الزبائنية التي يتشارك جميع المسؤولين علاقةً بها وإدارةً لها. وفي هذه العودة ما يجمع مواطنين ومواطنات بمعزل عمّا يمكن لاحقاً أن يفرّقهم. كما أنه يسمح بجعل الطائفية عنصراً ثانوياً أو حتى هامشياً في عملية فرز المُجتمعين من أجل حقوق ومطالب اقتصادية معيشية.
هل يعني ما ذُكر أنّنا أمام نهاية حقبة أو نهاية انقسامات سادت على مدى السنوات العشر الماضية؟
أغلب الظنّ لا. وأغلب الظنّ أيضاً أن عنوانَي الخلاف الأكبر بين اللبنانيين، سلاح حزب الله وأدواره الإقليمية من جهة وشكل النظام السياسي وفلسفته من جهة ثانية، سيستمرّان طويلاً.
لكننا أمام دينامية لبنانية جديدة لن تُبقي احتكار السياسة لمُعسكرين فشلا فشلاً ذريعاً في حُكم البلاد وإدارة مرافقها، بمعزلٍ عن وجاهة أيّ اعتبار لا يوزّع بالتساوي المسؤوليّات عن الفشل ذاك.
وهذا في ذاته مشهدٌ جديد.