سريعا، كبرت انتفاضة 22 آب، لتصبح في 29 منه أكثر نضوجا واتساعا.
عشرات الآلاف من «الأكثرية الصامتة» حطّموا سكوتهم وسكونهم وتدفقوا الى ساحتي الشهداء ورياض الصلح، ليصرخوا بصوت واحد: كفى..
في 29 آب، تكرّست عودة الساحتين الى الناس العاديين الذين أعلنوا رسمياً عن انتهاء عهد «8 و14 آذار»، وولادة تيار جديد وجارف في لبنان، لا تسري عليه ولا تنفع معه التصنيفات والتسميات التقليدية.
.. وفي 30 آب، أطلق الرئيس نبيه بري «نداء الاستغاثة»، لمنع أو تأجيل الانهيار الكبير، الذي يتسارع إيقاعه مع التحلل المتواصل لجسم الدولة الآخذ في التعفن، حتى.. «طلعت ريحتو».
وغداة تظاهرة ساحة الشهداء المدوّية، اختار بري ساحة عاشوراء في النبطية ـ حيث أحيت «حركة أمل» الذكرى الـ37 لتغييب الإمام موسى الصدر بمهرجان جماهيري حاشد ـ ليطلق مبادرة الفرصة الأخيرة والوحيدة.
مع تصاعد ضغط الشارع المحتقن، وانسداد شرايين المؤسسات الدستورية، وتفاقم الأزمات السياسية والمعيشية، وانشغال الخارج عن لبنان.. قرر بري أن يقوم بما أسماها «محاولة متواضعة لإدخال الضوء الى بيوتنا بدلا من النفايات السياسية»، موضحا انه سيدعو خلال الأيام العشرة الأوائل من شهر أيلول الى حوار يقتصر على الرئيس تمام سلام وقادة الكتل النيابية، للبحث في «رئاسة الجمهورية وعمل مجلسي النواب والوزراء وماهية قانون الانتخابات النيابية وماهية قانون استعادة الجنسية واللامركزية الإدارية، ودعم الجيش والقوى الامنية».
ومع أن ردود الفعل الأولية لبعض المعنيين بطاولة الحوار المتجدد أظهرت تجاوباً مع دعوة بري، إلا ان المهمة لا تبدو سهلة، في ظل استمرار التوتر الإقليمي والافتقار الى قدرة داخلية على إنتاج دينامية مستقلة للحل، تعيد الاعتبار الى «اللبننة»، إلا إذا «استحقها» أهل النظام وقرروا تبادل التنازلات لإنقاذه، قبل أن يهوي، تحت تأثير التفاعل بين عاملين: اهترائه من الداخل، والضغط المتزايد عليه من الشارع.
وقد أكد الرئيس سعد الحريري في تغريدة عبر «تويتر» انه يلتقي مع بري في الدعوة الى حوار يناقش البنود التي أوردها في خطابه وقال: نحن بالتأكيد سننظر بإيجابية الى موضوع الحوار عندما نتلقى الدعوة، وان الاتفاق على بتّ موضوع رئاسة الجمهورية يشكل المدخل السليم للبحث في القضايا الاخرى. وأضاف: ان إعلان التمسك بالحكومة وتفعيل عمل المجلس النيابي يشكلان قاعدتين للاستقرار المطلوب في هذه المرحلة.
وقال النائب وليد جنبلاط لـ «السفير» إنه يرحب ترحيباً عالياً بمبادرة الرئيس نبيه بري الذي يحرص على الحوار في الأوقات الصعبة والمصيرية. مشيراً إلى أن الحوار الآن هو أكثر من ضروري لمعالجة شتى الأزمات، آملاً في أن يؤدي إلى إخراج لبنان من كل هذه المآزق وفي طليعتها مأزق انتخاب رئيس الجمهورية.
وقال الوزير الكتائبي سجعان قزي لـ «السفير» إن المكتب السياسي لحزب الكتائب سيتخذ اليوم الموقف النهائي من المبادرة الحوارية، «لكن ما أستطيع تأكيده هو أن بري يحاول من خلال طرحه فتح ثغرة في جدار الجمود الدستوري والوطني، ونحن لا نعتبر أن هذا الطرح سلبي، بل اننا في الاساس لم نكن بعيدين عنه وهو كان مدار بحث مؤخرا بين رئيس المجلس ورئيس الكتائب».
إلا أن قزي شدد على ضرورة ألا يأتي الحوار أو تحريك عمل مجلس النواب على حساب عمل الحكومة.
ودعا عضو «كتلة الوفاء للمقاومة» النائب حسن فضل الله الجميع إلى ملاقاة المبادرة الحوارية المطروحة من قبل الرئيس بري، لأن الحوار بين القوى اللبنانية هو المدخل الطبيعي للتوافق على القضايا المختلف عليها، مطالباً الجميع بعدم تفويت هذه الفرصة وعدم إدارة الظهر لمطالب المواطنين.
الانتفاضة تتسع
في هذه الأثناء، كانت ساحة الشهداء امتداداً الى ساحة رياض الصلح تحقق ما عجزت عنه طاولات الحوار بين السياسيين والتسويات المستوردة من الخارج، فسقطت فدرالية الطوائف، وتهاوت مخاطر الفتنة المذهبية والحواجز الطائفية، واكتشف الكثيرون أنهم كانوا على مدى سنوات ضحية وهم أو كذبة.
صحيح أن بعض المتظاهرين ينتمون أو يميلون الى هذا الفريق أو ذاك، لكنهم نجحوا، ربما للمرة الأولى، في تغليب حس المواطنة على المزاج السياسي أو الحزبي، فخلطوا الاوراق وبعثروا الاصطفافات وعبثوا بقواعد اللعبة التقليدية، وعبروا معا الى ضفة جديدة..
كان من الصعب أمس الاول التمييز بين المحتجين الذين صهرهم الوجع في وعاء واحد، فصاروا متشابهين، متقاربين، كأنهم واحد بظلال عدة.
كانوا يبوحون بالانفعالات ذاتها، ويتكلمون اللغة ذاتها، برغم أنهم يأتون من مناطق وبيئات مختلفة، كادت تتحول الى جزر أو كانتونات، بفعل خطوط التماس المفتعلة بينها.
من دون تكلف أو كلفة، تحققت في الشارع المصالحة الوطنية الحقيقية العابرة للناس والهموم، بعدما ثبت بالتجارب السابقة أن المصالحات الفوقية ليست سوى لقاء عابر بين مصالح، قد يطول أو يقصر تبعاً للظروف.
والى جانب هذه الرسائل في المضمون، نجحت انتفاضة 29 آب في التحدي التنظيمي الى حد كبير، فقدمت صورة حضارية عن الحراك الشعبي، كادت تكون نموذجية لولا بعض الخروقات التي سجلت عند «خط التماس» بين السرايا الحكومية وساحة رياض الصلح، من دون إغفال الدور الذي أدته القوى الامنية أيضا في المحافظة على الامن، بفعل سياسة ضبط النفس التي اعتمدتها في مواجهة استفزازات قلة من المتظاهرين.
وإذا كانت أعداد المشاركين في تظاهرة ساحة الشهداء وامتداداتها الى ساحة رياض الصلح، بقيت موضع اجتهاد وتباين، إلا ان الأكيد أن الحشد كان كبيرا، وغير مسبوق في تاريخ التظاهرات المدنية في لبنان.
وفيما أكد المنظمون أن رقم المشاركين في حراك السبت الماضي تجاوز الـ100 ألف، قالت مصادر وزارة الداخلية ان العدد تراوح بين 10 و20 ألف شخص، موضحة ان هذا الرقم هو نتاج تقاطع بين تقديري قوى الامن الداخلي والجيش اللبناني.
وأبعد من اختباري العدد والتنظيم، يواجه الحراك الشعبي تحدي إثبات جدواه وقدرته على التغيير، في معركة طويلة، تتطلب مخزوناً من النفس الطويل والزخم الشعبي والحكمة والشجاعة.
ولعل المحطة المقبلة في هذه المعركة ستتضح غدا، الثلاثاء، مع تحديد الخطوات التصعيدية التي ستلجأ اليها الحملات المنضوية في المجتمع المدني، إذا مضت مهلة الـ72 ساعة التي مر منها نصفها تقريبا، من دون أن تتجاوب السلطة مع المطالب الاربعة. (استقالة وزير البيئة، محاسبة وزير الداخلية ومطلقي النار على المتظاهرين، تحرير أموال البلديات، والدعوة الى انتخابات نيابية).
وتعليقا على احتمال التصعيد، قال الرئيس تمام سلام أمام زواره أمس: نحن حافظنا على أمن المسيرة وما زلت عند موقفي بأنني مع مطالب الناس، وهذه المرة سيطرنا على الشارع، لكن اذا فلتت في المرة المقبلة فماذا يحصل؟
وبينما يصر منظمو الحراك على استقالة وزير البيئة محمد المشنوق، قال المشنوق لـ «السفير»: لست في وارد الاستقالة من واجباتي، ولن أكون كبش محرقة لأحد.. وإذا كان يقال بأنني أتحمل وحدي المسؤولية، فهذا يشرفني، لأنني المسؤول الوحيد الذي يحاول أن يفعل شيئا بغية إيجاد حل لأزمة النفايات، فيما تهربت معظم الأطراف السياسية من تحمل مسؤولياتها.
واعتبر المشنوق ان استقالة الحكومة تظل أقل وطأة من استقالة وزير في هذه الظروف، لان الحكومة تتحول مجتمعة الى تصريف الاعمال، «بينما إذا استقلت أنا، فسيحصل خلل في التمثيل الحكومي، وسيحل مكاني بالوكالة، في انتظار تعيين البديل المجهول، الوزير الياس بو صعب، ولا أعرف حينها إذا كانت أزمة النفايات ستُعالج ام ستتعقد».
وأشار المشنوق الى انه يطرح في مجلس الوزراء ما ينادي به الناس، مؤكدا انه صوتهم في داخل الحكومة، «وبالتالي فإن التصويب علي هو إطلاق نار عشوائي، والمطلوب من المحتجين أن يصححوا البوصلة ويصوّبوا في الاتجاه السليم».
أما في ما خص المطلب الآخر للحراك المدني والمتمثل في محاسبة وزير الداخلية والمسؤولين عن إطلاق النار على المتظاهرين، فإن مصادر وزارة الداخلية أبلغت «السفير» ان الوزير نهاد المشنوق ينتظر انتهاء التحقيقين، المسلكي والقضائي، ليبنى على الشيء مقتضاه، مشيرة الى انه سيتم، وفقا لنتائج التحقيقين، اتخاذ الإجراءات المسلكية المناسبة التي تحول دون تكرار أخطاء السبت الشهير.
وردا على المطالبة بمحاسبة وزير الداخلية شخصيا، أشارت الاوساط الى ان الوزير كان خارج لبنان عندما وقعت صدامات السبت، وحين عاد أمسك الامور وضبط الوضع، وبالتالي لم تُسجل في الايام اللاحقة أي أخطاء.
وأبلغت أوساط وزارية «السفير» ان مطالب الحراك المدني غير واقعية وغير منهجية، مشيرة الى ان التلويح بإنذارات ومهل زمنية غير مقبول، وناصحة المنظمين بأن يتفاوضوا مع رئيس الحكومة وألا يحوّلوا أنفسهم الى رهائن للوقت.
أما على خط الحراك، فإن العديد من منظميه أكدوا لـ «السفير» انهم طالبوا بأمور هي في معظمها سهلة التحقيق، وتتطلب فقط تطبيق القوانين من دون حتى الحاجة إلى انعقاد مجلس الوزراء، «على أن تتحدد مساء الثلاثاء أشكال التصعيد، في حال عدم تنفيذ المطالب».
السفير : «الانتفاضة المدنية» نحو التصعيد «إذا لم تصل الرسالة» بري يُطلق «نداء استغاثة»: «مخرج طوارئ» بالحوار
السفير : «الانتفاضة المدنية» نحو التصعيد «إذا لم تصل...لبنان الجديد
NewLebanon
|
عدد القراء:
492
مقالات ذات صلة
الجمهورية : السلطة تحاول التقاط أنفاسها... والموازنة تفقدها...
الاخبار : السفير الروسي: الأميركيّون يهيّئون لفوضى في...
اللواء : باسيل يتوعَّد السياسيِّين.. ورعد...
الجمهورية : مجلس الوزراء للموازنة اليوم وللتعيينات غداً.....
الاخبار : الحريري بدأ جولة...
اللواء : هل يستجيب عون لطلب تأجيل جلسة المادة...
ارسل تعليقك على هذا المقال
إن المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس بـالضرورة سياسة الموقع
© 2018 All Rights Reserved |
Powered & Designed By Asmar Pro