لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم الحادي والستين بعد الأربعمئة على التوالي.
ليس ثمة أبلغ من عداد أيام الفراغ الرئاسي للتأكيد على حالة العجز التي تعيشها السلطة وتنعكس على حياة اللبنانيين ويومياتهم. ولأن قدرة الناس على احتمال فشلها في معالجة أي من الملفات، وأفدحها ملف النفايات المتراكمة في الطرق، لم يجدوا ما يعتمدون عليه إلا الأمل بالتغيير. وبهذا المعنى، يوحي المناخ العام أن ساعة الصفر قد اقتربت وأن ما بعد الساعة السادسة من مساء اليوم لن يكون كما قبلها.
ستشهد بيروت، اليوم، تظاهرة قد تكون الأعظم حشداً منذ زمن طويل، وبقيادة شبابية غير سياسية، بمعنى الانتماء الحزبي المحدد. وإن كانت أهدافها ستتجاوز السلطة وعجزها لتركز على رفض النظام الطائفي، بمؤسساته القائمة والمعطلة، كما يقول منظمو الحدث الكبير الذي لا تتصدره الأحزاب والتنظيمات الطائفية، إلا بوصفها متهمة بالمساهمة في ترسيخ دولة الفساد والزبائنية.
إذا كانت «انتفاضة 22 آب» قد نجحت في كسر حاجز الخوف، فإن «انتفاضة 29 آب» يفترض أن تؤسس لمرحلة «استعادة الشعب للشرعية، التي خطفت وصودرت من قبل قيادات الطوائف».
من كسر حاجز الخوف أمام «سلطة ظالمة وفاسدة»، متحرراً من انتماءات فُرضت عليه بفعل الأمر الواقع أو الوراثة، فلن يصعب عليه استكمال ما بدأه، ساعياً إلى تعرية السلطة من الشرعية التي استحصلت عليها زوراً. لهذا ينزل منظمو التحرك، من حملات وجمعيات ونقابات، بأهداف واضحة ودقيقة وبلا أوهام وعناوين عريضة، مع إدراكهم أن التحرك الجماهيري سيكون أكبر من أن يكون محكوماً بسقف مطالب محدد نظراً لتنوع مشارب المشاركين وتنوع أهدافهم التي تتراوح بين إزالة النفايات من الطرق ووقف الفساد والمحسوبية وإيجاد فرص العمل والحصول على لقمة العيش وتأمين الكهرباء والماء إلى المنازل، وبين إجراء الانتخابات واستقالة الحكومة وإسقاط النظام وإقامة الدولة العلمانية المدنية.
وبالرغم من أن كثراً من المنظمين يعتبرون أن كل هذه المطالب محقة، إلا أنه كان لا بد من حصر الأهداف. ولذلك أسباب عديدة أولها اقتناعهم بأن «السلطة الحاكمة صارت جسداً ميتاً، فلا مجلس النواب شرعي ولا مجلس الوزراء قادر على الحكم ولا رئاسة الجمهورية موجودة». وبالتالي، فإن «بقاء هذه السلطة أو رحيلها لن يغير شيئاً في واقع سقوطها».
وثانيها أن المطلوب إحياء الدولة لا القضاء عليها. «فالتظاهر في سبيل العدالة الاجتماعية والدولة المدنية العادلة والدولة الديموقراطية هو في جوهره مطالبة بتطبيق الدستور، الذي يرعى هذه الحقوق»، بحسب مدير «المفكرة القانونية» نزار صاغية، الذي يرى أن «الطائفية صارت أقوى من الدستور بعدما صار لزعماء الطوائف دستورهم المبني على المحاصصة».
يحرص المنظمون، بلسان قياداتهم التي باتت معروفة، على التأكيد أن هدفهم ليس الفوضى بل التمسك بالمؤسسات، من خلال إعادة العمل بالدستور والقوانين. وتحرك اليوم هو، بهذا المعنى، حركة مواطنة يفترض أن تعلن فك الارتباط مع الزعماء الحاليين، بما يعنيه ذلك من إعادة تصويب لآلية الحكم بحيث يعود الشعب مصدر السلطات بدل الزعماء، بما يؤسس لبناء «الدولة المدنية والديموقراطية.. ودولة الرعاية الاجتماعية»، التي يعتبرها النقابي حنا غريب أبرز إنجازات المنظمين الذين قدموا أمس «إعلان مبادئ» يحسم مسألة استقلاليتهم ويوحدهم خلف الدولة الديموقراطية البعيدة عن المحاصصة.
«ليست الحكومة خصماً لأنها سلطة شكلية»، يقول الوزير السابق شربل نحاس، قبل أن يضيف: إن الشرعية بدأت تبتعد عن السلطة الحالية بفعل الأمر الواقع، وهو ما يظهر من تخبطها في التعامل مع الأزمات التي تواجه البلاد، لكن الأهم بالنسبة له هو صرف التعبير عن الغضب في عملية إنتاج شرعية بديلة هي شرعية الناس.
تحمل تظاهرة اليوم على كاهلها كل هذه العناوين، حتى لو لم يعلن عنها. وهي عناوين مطمئنة للمترددين وتبدد قلق الخائفين على الاستقرار والقلقين من الفراغ أو الفوضى في حالة سقوط الحكومة. تظاهرة اليوم ستعزز بالدرجة الأولى ثقة الناس بقدرتهم على التغيير، بما ينزع الثقة من السلطة ويؤدي تدريجياً إلى رؤية مختلفة وتوجه بديل، بعيداً عن الأشخاص والأسماء. أما ماذا بعد تحرك اليوم؟ فسؤال لا ضرورة للإجابة عنه حالياً، خاصة أن الحراك هو حراك شعبي صرف لا تتحكم به أي إيديولوجيا. أما إذا كان لا بد من إجابة، فالسلطة هي المطالبة بتقديمها لا الناس الذين يطلقون صرخة غضب تعبّر عن أوجاعهم.
مبدآن يقول الناشط اليساري عربي العنداري إن المنظمين يحرصون عليهما: أولاً منع أي جهة سياسية مكونة للسلطة من تجيير التظاهرة باتجاهها، وقد نجح التحرك بالفعل في إقصاء كل أحزاب السلطة عنه، فكان آخرها «التيار الوطني الحر» الذي اكتفى بإعلان ملكيته للشعارات التي ترفع، مشيراً إلى ان الاتهام بالفساد يشمل الإصلاحي ايضا! والثاني عدم السماح بذهاب التحرك باتجاه الفوضى. وهو أمر تتحمل مسؤوليته القوى الأمنية أولاً وأخيراً. وهو ما لم تفعله بعد موجة القمع العنيف الذي رافق تظاهرة الأسبوع الماضي.. والذي أوحى سلوك السلطة أنه بلا فاعل، بعدما تبرأ منه الجميع. ليس الجيش من أطلق النار ولا شرطة مجلس النواب ولا قوى الأمن الداخلي.. لكن وزير الداخلية نهاد المشنوق عاد وحمّل المسؤولية للأجهزة الثلاثة، قائلاً إنه في ما يخص قوى الأمن «بصدد التحقيق معها وكلفنا المفتش العام لقوى الأمن الداخلي ونتعاون مع القضاء العسكري للمطابقة بين التحقيقين وإعلان النتائج عندما تنتهي».
مع ذلك، فإن من ينزل إلى الشارع اليوم سيكون محمياً بتعهد الوزير نهاد المشنوق أنّ «هذه القوى، التي استخدمت القوة المفرطة سابقاً، ستحاول اعتماد سياسة ضبط النفس اليوم ومنع الغوغائيين والمندسّين من المشاركة في التظاهرة». وهو تعهد قدمه قائد الجيش العماد جان قهوجي أيضاً الذي أكد حماية التظاهرات السلمية.
في المقابل، فإن المنظمين قد ركزوا بدورهم على حماية المؤسسات العامة والأملاك الخاصة، كجزء من حماية تحركهم وأهدافه. وهم بعد أسبوع من «تظاهرة إطلاق النار»، صاروا حاضرين أكثر لتغطية عيوب التنظيم التي رافقت الأيام الأولى، والتي نتجت من عدم تقدير حجم التضامن الشعبي مع «طلعت ريحتكم». وبعدما انطلقت الحملة بعدد من الأفراد، صارت «ملك الشارع، ملك الناس، ملك القرفانين من المحسوبيّة والفساد واغتصاب السلطة»، كما قال عضو الحملة أسعد ذبيان في المؤتمر الصحافي الذي عقد أمس في ساحة الشهداء للإعلان عن أهداف التظاهرة ومسارها. حيث ستنطلق من أمام وزارة الداخلية في الصنائع عند الخامسة بعد الظهر وتصل إلى ساحة الشهداء عند السادسة.
الإنجازات التي تحققت حتى الآن، ومنها إيقاف «صفقة مناقصات النفايات» وسقوط «جدار العار» الذي لم يصمد لأكثر من 24 ساعة، هي البداية، بحسب «طلعت ريحتكم»، أما المطالب الرسمية لتحرك اليوم، فهي:
أ‌- محاسبة جميع من أمر وأطلق النيران على المتظاهرين العزّل الأسبوع الماضي وصولا إلى وزير الداخليّة نهاد المشنوق.
ب- استقالة وزير البيئة محمد المشنوق لفشله في أداء واجبه في تفادي مشكلة النفايات أو إيجاد حل لها.
ج- تحرير أموال البلديات من الصندوق البلدي المستقل (وليس فقط بمرسوم يبقى حبراً على ورق).
د- إجراء انتخابات نيابية، بما يشكله هذا المطلب من دعوة إلى إعادة تشكيل السلطة، بالطرق الديموقراطية.