الكثير من التحركات الشعبية التي شهدناها في لبنان ، شهدت على هامشها بعض الشوائب والمشاكل وإن بنسب متفاوتة، بغضّ النظر عن الجهة المنظمة، سواء" كانت جهات حزبية أو جمعيات أهلية، لكن ذلك لا يقلل من أهمية تلك التحركات إذ كانت المطالب والشعارات المرفوعة مشروعة ومحقّة.
ما حصل يوم الأحد الفائت وما بعده من أعمال شغب وتكسير وعبث بالأملاك العامة والخاصة، لا يتحمل مسؤوليتها المشاركون في الحراك الشعبي ومنظموه، بل يتحمّل مسؤوليتها من أرسل تلك المجموعات المخرّبة بهدف التخريب والتشويه ورسم خطّ أحمر أمام هذا الحراك، والجهات التي أرسلتهم معروفة وهويتها السياسية مكشوفة.
الشعب اللبناني لم ينزل إلى الشارع في اليوم التالي على بدء أزمة النفايات الفضيحة، بل إنتظر شهراً كاملاً وتحمّل ما لا يحتمل من روائح النفايات الكريهة وتنشق دخانها السام ، بإنتظار أن تجد الحكومة حلاً يخرجه من هذا الواقع المقرف، لكن هذا الحلّ لم يأتِ، وطال إنتظاره حتى وصلت النفايات إلى أبواب المنازل والمحال والمؤسسات التجارية والسياحية، ودخلت الروائح الكريهة إلى كل بيت دون إستئذان، وكانت الحكومة وما زالت تنتقل من تأجيل إلى تأجيل ومن تعطيل إلى تعطيل، والمسؤولين وزعماء الطوائف واجهوا هذه الأزمة ببرودة أعصاب باردة ومقززة وبدأت الإساءات تنهال على الشعب اللبناني ووجّهت إليه الكثير من التهم بأنه شعب متخاذل ومتقاعس ولا يتحرّك للخروج من واقعه المزري وبأنه يتأقلم مع كل الأزمات حتى وصل به الأمر للتأقلم مع النفايات وروائحها الكريهة ودخّانها القاتل، وهذا الكلام كان صحيحاً إلى أن إنطلقت شرارة التحرّك الشعبي الواسع في الشارع.
أهمية هذا الحراك الشعبي، أنه أزال وصمة عار كبيرة عن جبين الشعب اللبناني وأزال جدار العار الذي رفعته السلطة الغبية في ساحة رياض الصلح، وتجاوب المواطنين الكبير معه ومشاركتهم الحاشدة فيه، يدلّ على أنّ اللبنانيين شعروا بالضيق من هذه السلطة وأحزابها بعد أن تُركوا لمصيرهم وهم بحاجة لمن يدافع عن حقوقهم ويشعر بوجعهم ويؤمن لهم الحدّ الأدنى من العيش الكريم، بعد أن تركتهم الطبقة السياسية الحاكمة يغرقون في وحول الأزمات الناتجة عن فسادها وهدرها وسوء إدارتها.
قد يختلف أي مواطن شارك في التظاهرة والإعتصام أو يتفق مع الشعارات المرفوعة ومع الأولويات المطروحة، لكن الجميع مدرك بأن السكوت لم يعد جائزاً بعد أن بلغت الأزمات ما بلغته من كوارث على كافة الصعد، وما أوصلنا إلى هذا الدرك هي أزمة الأحزاب التي يعاني منها لبنان، فأحزاب السلطة غارقة في الصفقات والسمسرات وأصبحت مصدرا" للفساد والإفساد وآخر همّها هموم الناس، وأحزاب اليسار غارقة في أزمات سياسية وتنظيمية لا تنتهي ، وضعتها خارج دائرة التأثير بعد أن فقدت قدرتها على الإستقطاب وخسرت الكثير من جمهورها ومحازبيها، أما حزب الله الذي يتباهى يقدراته القتالية وترسانته العسكرية، فهو يعيش في عالم آخر معزول عن هموم الناس ومعاناتهم اليومية وأزماتهم المعيشية، ولا همّ له سوى القتال في طول المنطقة وعرضها دفاعاً عن مصالح المحور الذي ينتمي إليه ولا يلتفت لمعاناة أهله وأهل المقاتلين الذين يجندهم ويرسلهم للموت دفاعاً عن النظام السوري وأمثاله.
الحراك الشعبي بدأ سلمياً ومستقلاً، وتجاوب معه حشداً لا يستهان به من المواطنين المستقلين والحزبيين الخارجين من أحزابهم وعليها والذين نزلوا إلى الشارع كأفراد، لكن ما يهدد هذا الحراك وسلميته وإستقلاليته وفعاليته، هي المجموعات المندسة التي تأتي بهدف تخريبه وتخويف المواطنين من المشاركة فيه، نتيجة العنف الذي تفتعله هذه المجموعات مع القوى الأمنية أو الردّ على العنف المفرط الذي تمارسه الأجهزة الأمنية بتخريب وتكسير الأملاك الخاصة والعامة، والحرّاك مهدد من قبل المتسلقين عليه وتحميله شعارات غير قابلة للتحقيق، وهذا الأمر جرّبناه بالسابق وأدى إلى الإحباط والإنكفاء. النظام اللبناني نظام طائفي خبيث وإسقاطه بالضربة القاضية أمر مستحيل أقلّه في هذه المرحلة، وعليه، يجب رفع مطالب محددة وقابلة للتحقق ،
فمطلب إسقاط الحكومة كان ممكناً ومحقاً لو كان هناك رئيساً للجمهورية، لكن شغور سدّة الرئاسة الأولى، يجعل المطالبة بإستقالة الحكومة ضرباً من الجنون، ما يحتّم علينا المطالبة أولاً بإنتخاب رئيس جمهورية، وهذا مطلب محق ويمكن تحقيقه عبر الضغط على النواب وإجبارهم على النزول إلى مجلس النواب وإنتخاب رئيس للجمهورية، وبعد إنتخاب رئيس الجمهورية، تصبح الحكومة بحكم المستقيلة ويصبح المطلب التالي والمحق والملحّ هو تشكيل حكومة جديدة تشرف على إقرار قانون إنتخابي جديد وإجراء إنتخابات نيابية حرّة ونزيهة ينبثق عنها حكومة تمثّل الأكثرية الجديدة.
غير ذلك، يصبح التحرّك أمام أفق مسدود، والأفق المسدود يؤدي حتماً إلى الإحباط واليأس، وهذا ما تتمناه الطبقة السياسية البائسة.