بدأت نواة الحراك الشعبي المحدود في لبنان لأن جزء من الشعب قرر التخلي عن سياسة الاستحمار. أدرك كثير من الناس حقيقة سياسة الاستحمار منذ زمن بعيد، لكن نتائج التحرك ضد نظرية الاستحمار كانت محفوفة بالمخاطر فتقبلوا الاستحمار على مضض. لكن رواد سياسة الاستحمار تمادوا في غيِّهم حتى اقتنع الشعب بأن الموت من أجل العدالة خير من العيش تحت روث الحمير الذي طافت بها مدنهم. ففي القبر لن يشتموا رائحة الزبالة ولن يكترثوا لانقطاع النور أو دفع الرشاوي من أجل الحصول على حقوقهم. ولن يضطروا لاستصدار إخراج قيد جديد لكل صغيرة وكبيرة كضريبة غير مرئية يدفها المواطن قهراً وظلماً.
أما سياسة الاستحمار العريقة فقد تطورت مع الزمن من فردية زعيم إلى فريق عمل متكامل ضم أركان الحكم في شركة استحمارية وطنية يشرف عليها خبراء أجانب ذوي خبرة في تفكيك الأوطان. فالذي جاء من العراق وأفغانسان وبقايا فييتنام وغيرهم. تقضي السياسة الاستحمارية باشغال الناس في أتفه الأوامر والتدرج بها إلى عمق الحياة اليومية. وكان المواطن خلالها صابراً صبر الحمار خوفاً على "لقمة العيش" المرة، دون أن يكون حماراً كما أراد له أصحاب المزراع. ولهذا بقيت أركان الدولة صامدة مما كان حاجزاً في مشروع تفكيك الدولة المزمع فتفتق ذهن القادة على استحضار الفتنة المذهبية بعد فشل جزئي للمشروع الطائفي. بدأ الشحن المذهبي بتخويف الجار من جاره الذي يعرفه منذ سنوات طوال، أحضروا له الفتاوي التي تكفر الجار وتبعث به إلى النار إن لم يقطع معه علاقاته "الديبلوماسية" ففعل خوفاً من الله غير مدرك حقيقة استحماره. واستعان كل فريق بجهابذة علوم الدين المتخصصين في الكراهية الاسلامية وسجلوا الصحابة ضمن عقاراتهم فأصبح الصحابي فلان سنياً والآخر شيعياً ولا يحق للفريق الآخر ذكره تحت طائلة الكفر. علت بعض الأصوات المعارضة فتم اسكاتها أو ابعادها عن أي مكان يمكن أن يؤثر على الحركة الاستحمارية الدينية.
وعندما لم تأت هذه الحركة أُكلها، شحت المياه بفعل فاعل، كما أصبحت الكهرباء هبة مقدسة ينعم بها زعيم الطائفة لمن يطأطئ رأسه أكثر. واستشرى الفساد فأصبح موظفي الدولة لصوصاً تحت مظلة صاحب الأمر. بل تجاوزت ظلال المظلة ذلك حتى شملت تجار السلاح والحشيش والقتلة المأجورين وأصبح العُرف بأن فلان "عليه غطاء". لذلك لم يعد يبرد أي من اللصوص والزعران أيام الثلج فيما المواطن العادي يموت برداًفي العراء كل يوم صيبفاً وشتاء. وتم بعد ذلك استيراد نخب "ارهابية" لاحراز هدف متفجر في عقر دار الطائفة العدوة كي ترتفع شعبية زعيم الطائفة على أشلاء القتلى. وهنا يبزر ذكاء المُستحمِر عندما دعا كل من مات بتفجير شهيداً. تاجر الخضار شهيد، المحامي شهيد، الأزعر شهيد، اي من كان ماراً من جانب السيارة المتفجرة ومات أصبح شهيداً. أصبحت الشهادة كشهادات الدكتوراة الفخرية التي توزع للأحباب ففقدت الشهادة قدسيتها وخصوصيتها فيمن قتل وهو يجابه العدو أو من يقضي طالباً للعلم، كما من مات حرقاً أو غرقاً.
ومع كل الاستحمار المزمع والضائقة الاقتصادية لم يتورع زعماء الطوائف ومن ساندهم من أحزاب على اقامة المآدب المعلن عنها والفخر بعدد القصور التي هي شرف الطائفة فيما أعداد لا تحصى ينامون دون عشاء، يرتجفون من البرد أو يحترقون من الحر. وأخيراً صُبَّت عليهم أكوام الزبالة والنفايات بسب خلاف على توزيع كعكة الزبالة. كان من المفروض أن يموت الناس "فطيس" أو أن يستسلموا ويذهبوا إلى دارات العز يتوسلونهم "رشة عطر". وبما أن الزعماء لا يملكون العطر أفاضوا عليهم باغلاق المكبات والمطامر. لكن ما حصل هو أن فاض بالناس حتى انفجروا وتحركوا فثاروا، ومن لم ينفجر بعد ولم يثر بعد كان ملتزماً بما يمليه القائد الميمون صاحب الوظائف واليد الطولى في رزقه. نعم لقد أمسكوا بزمام الرزق كما يزعمون ناسين بأن الرزق هو من عند الله كما جاء صريحاً في القرآن الكريم.
وحتى لا أطيل أكثر، الجميع يعلم ما حصل من تدخل الزعران لتشوية صورة رافضي الاستجداء من أجل لقمة العيش ونور لمبة وكوب ماء تحت شعار قبول نظرية الاستحماء. ثار من لا يريد أن يصبح لصاً أو تابعاً، ثار من لا يريد أن يكون مُستَحمَراً أكثر من الماضي.
وحتى تكتمل المسرحية الاستحمارية اجتمع أصحاب الصول وتقاسموا كعكعة الزبالة رافعين الأسعار ثلاثة أضعاف الكلفة المعروفة لتكون حصصهم متساوية.
الخطأ الأكبر في السياسة الاستحمارية الحديثة هو أن المُخَطِط قد جر الناس إلى طرف الهاوية فلم يترك للمواطن متنفساً أو نقطة ماء تذكره بقيمة الحياة. سلبه الوظيفة، والماء والغذاء والكهرباء...
ماذا سيخسر بعد؟ حياته
كل المواطنين الذين سُلبت منهم هذه الأشياء يتمنون الموت على الحياة حياة يُستَحمَرُون بها، لذلك فضلوا الموت "شهداء" دفاعاً عن حقهم على أن يكونوا بشراً متساوين مع اللصوص. ومن لا يرضى الهوان في ظل النظرية الاستحمارية سيرى أولاده عرايا يئنون من الجوع فيضطرون لأخذ الرشاوي المشروعة، ويسقطون في فخ الاستحمار. تلك الرشاوي التي غض الحاكم عنها الطرف وشجعها كي يبقى الناس تحت لوائه لينعم في عزته وكرامته دون أن يتذكرهما.
أترانا سنعيش كثيراً قبل أن ينفجر البركان يوماً يرفض فيه الجميع نظرية الاستحمار ويستبدلونها بالحرية والعدالة.