عد خمس سنوات على إقرار خطة معالجة النفايات في مجلس الوزراء، لم تجد الحكومة حلاً للازمة التي أوقعت البلاد فيها سوى الرشوة. رشوة بمئة مليون دولار مقسّطة على ثلاث سنوات لبلديات في عكار، في مقابل إرسال النفايات من بيروت والضواحي وبعض جبل لبنان إلى المحافظة الشمالية المحرومة من نعيم الدولة. على المستوى السياسي، الأزمة تزداد تجذّراً يوماً بعد آخر. تيار المستقبل مصرّ على عزل الجنرال ميشال عون، ومن خلفه حزب الله. يرفض تقديم أي تنازل له.

الرئيس نبيه بري على موقفه الذي يصبّ في مصلحة «المستقبل»: لن يقدّم شيئاً لعون حتى يعترف بشرعية مجلس النواب ويوقّع مرسوم فتح الدورة الاستثنائية. أما رئيس تكتل التغيير والإصلاح، فيرى أن التنازل لبري لن يفيده، ما دام ما يريده موجود أيضاً بيد تيار المستقبل. «ولنفترض أننا نزلنا إلى مجلس النواب من دون اتفاق مع سعد الحريري، فما الذي يضمن ألا تسقط كل مشاريعنا بالتصويت؟»، يسأل مصدر قريب من الرابية.
قبل أيام، عُقِد لقاء ضم الوزير علي حسن خليل والوزير جبران باسيل والمعاون السياسي للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله حسين الخليل. رأى بعض المطلعين على اللقاء أن نتيجته كانت إيجابية. خرج عون بعدها ليقول إن مجلس النواب قانوني. لكن هذه العبارة لم تُقنع بري. في الخلاصة، العلاقة بين عين التينة والرابية لا تزال متأزمة، رغم التواصل شبه اليومي بين الوزيرين حسن خليل وباسيل.


جنبلاط بعد استقباله
صفا ومشهد رياض الصلح:
مبادرة أخيرة



والأخير تلقى اتصالات أيضاً من وزير الداخلية نهاد المشنوق خلال اليومين الماضيين، لكنها لم تفضِ إلى أي نتيجة إيجابية، وخاصة أن معظمها تمحور حول فكرة نقل النفايات إلى عكار التي يعارضها تكتل التغيير والإصلاح. الخلاصة الثانية أن أبواب الحلول موصدة. وزاد من إحكام إقفالها لجوء تيار المستقبل، ممثلاً بالرئيس تمام سلام في مجلس الوزراء، إلى إصدار مراسيم لم يوقّع عليها وزراء تكتل التغيير والإصلاح وحزب الله. في الجلسة الحكومية أمس، قال وزيرا الحزب محمد فنيش وحسين الحاج حسن كلاماً واضحاً ومختصراً يفيد بأن تخطّيهما وحلفاءهما في آلية العمل الحكومي لن يمر مرور الكرام. قالا ذلك قبل أن ينسحبا مع وزيري التيار الوطني الحر ووزير الطاشناق، ويتضامن معهم وزير المردة الموجود خارج البلاد. كلام فنيش والحاج حسن وضّح الصورة لدى رئيس الحكومة وقوى 14 آذار. فسلام تلقى رسالة من قيادة حزب الله قبل يومين، (تقول مصادر وزارية إن من نقلها له هو رئيس وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا)، تفيد بأن «التيار الوطني الحر ليس وحيداً في المعركة، ولا تظنوا أننا سنسمح بعزله، رغم تمسكنا بعدم إسقاط الحكومة». سلام وقوى 14 آذار ركّزوا على الجزء الثاني من كلام صفا، واعتبروها رسالة ضعف من الحزب، بحسب المداولات التي دارت بين عدد من وزرائهم ونوابهم ومسؤوليهم. كذلك زار صفا رئيس الحزب الاشتراكي النائب وليد جنبلاط الذي كان متحمّساً للغاية في لقائه الفرنسي مع الرئيس سعد الحريري لإصدار قرارات وزارية تتخطّى اعتراض عون وحلفائه. بعد استقباله صفا، بات جنبلاط أكثر هدوءاً. كذلك ساهم في التخفيف من اندفاعته مشهد ساحة رياض الصلح يومي السبت والاحد الماضيين، وما تلاهما من «انفلات أمني» و»توتير مذهبي» يمكن أن يتصاعدا ويوصلا البلاد إلى ما لا تحمد عقباه، بحسب رؤية النائب الشوفي. وبناءً على ذلك، قرر جنبلاط مجدداً جس نبض حليفيه بري والحريري لتفحص إمكان إطلاق مبادرة سياسية تخفف التوتر بين معكسري تيار المستقبل من جهة، وعون ــ حزب الله من جهة أخرى. كثرة اتصالات ومبادرات لا يبدي أحد تفاؤله بإمكان تحقيقها نتيجة ملموسة، وخاصة بعدما فشل حزب الله في تقريب وجهات النظر بين حليفيه المتخاصمين، بري وعون. الأخير رفض سابقاً تسليف بري توقيعاً على مرسوم فتح أبواب مجلس النواب، ورئيس المجلس يأبى منح رئيس تكتل التغيير والإصلاح أي ورقة بإمكانها مساعدته على مواجهة «المستقبل». يُضاف إلى ذلك أن الحريري أبلغ مساعديه ومَن راجعوه رفضه مبادرة المدير العام للامن العام اللواء عباس إبراهيم، الرامية إلى رفع سن تقاعد ضباط الجيش والأجهزة الامنية، بما يؤمّن دفعة واحدة حل أزمة التعيينات الأمنية، وفتح أبواب مجلس النواب، وتفعيل العمل الحكومي. رغم أن إبراهيم لم يتبلّغ رسمياً بعد موقف رئيس تيار المستقبل، فإن القوى السياسية الرئيسية باتت متشائمة أيضاً حيال مستقبل هذه المبادرة.
إزاء هذه الوقائع، تبدو الامور الحكومية والعلاقات السياسية متجهة نحو المزيد من التوتر. بات حزب الله يرى أنه المستهدف الحقيقي من قرار المستقبل عزل عون وكسره. وتلتقط أجهزة استشعاره إشارات لا تزال غير مؤكدة، تنبئ بأن الحريري وحلفاءه سيحاولون فرض رئيس للجمهورية بذريعة «إنقاذ البلاد من الجمود السياسي والانفلات الامني الذي يلوح في الأفق». ويراهن المستقبل على أن الحزب لن يقوم بأي خطوة من شأنها قلب الطاولة، «بسبب انشغاله في أولوية القتال في سوريا». ورغم ذلك، تؤكد نتيجة الاتصالات السياسية المتشعبة أن الحزب وعون قررا مواجهة السعي إلى استبعادهما وتخطّيهما وــ عملياً ــ إخراجهما من دائرة القرار السياسي. ويستند المستقبل وقوى 14 آذار إلى الخلاف المستحكم بين بري وعون، ومضيّ رئيس المجلس في عدم مجاراة حليفه وحليف حليفه في اعتراضهما على التراجع عن آلية العمل الحكومي التي جرى الاتفاق عليها بعد الشغور الرئاسي. ورغم ذلك، يؤكد مقرّبون من حزب الله أن التمايز الذي ظهر حكومياً بين حزب الله وحركة أمل لا يعني أن بري لم يعد يقف إلى جانب الحزب.
آلية المواجهة لم تخرج إلى العلن بعد. ومن المنتظر أن يرسم معالمها عون في مؤتمره الصحافي قبل ظهر اليوم. وأمام الحليفين معضلة جلسة مجلس الوزراء غداً، التي يريد بري وسلام منها تغطية وزارة المال لدفع رواتب موظفي القطاع العام. ولم يفصح العونيون ولا حزب الله عن كيفية مواجهة هذه المعضلة، في ظل عدم رغبتهما في تقديم ورقة لخصومهما، تسمح لهم باتهامهما بحجب الرواتب عن الموظفين.
خلاصة الوقائع السياسية، المعطوفة على الحراك الشبابي في الشارع، ومحاولة بعض القوى التذرع به للتحريض مذهبياً وطائفياً، أن البلاد مقبلة على أجواء شديدة الخطورة، لا تذكّر إلا بالفراغ السياسي الذي شهدته في الفترة الممتدة من خريف عام 2006 إلى ربيع عام 2008.