لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم السابع والخمسين بعد الأربعمئة على التوالي.
لملم الحراك الشعبي جراحه أمس، والتقط أنفاسه، بعد محاولة إجهاضه، إما بالقمع الأمني وإما بتجاوزات العناصر غير المنضبطة.
وبرغم ان حملة «طلعت ريحتكم» أرجأت تظاهرتها المركزية التي كانت مقررة أمس الى يوم السبت المقبل، إلا ان العديد من المواطنين بادروا البارحة الى التجمع السلمي في ساحة رياض الصلح من تلقاء أنفسهم، لمواصلة التحرك الاعتراضي وإبقاء شعلة انتفاضة 22 آب مضاءة.
أما الفضيحة التي ارتقت الى مستوى الصدمة، فتمثلت في لجوء القوى الأمنية الى تركيب جدار إسمنتي في ساحة رياض الصلح للفصل بين السرايا والمتظاهرين المحتجين على سياسات الحكومة.
أقل ما يمكن قوله، هو ان هذا المشهد معيب ومخجل، ولا يليق بصورة لبنان شعباً ودولة.. او ما تبقى منها.
إنه جدار العزل والعزلة، وهو لا يحمي الحكومة بل يحاصرها ويخنقها ويسيء إليها ويشوه آخر ملامحها. يكفي انه يحاكي جدار برلين الذي حطمه الشعب الالماني، وجدار الفصل العنصري الذي بنته اسرائيل في الاراضي المحتلة خوفاً من الشعب الفلسطيني.. فأين الحكمة في استنساخ هاتين التجربتين اللتين أدانهما التاريخ؟
وفي كل الأحوال، لم يستطع الجدار المستحدث ان يحجب صورة المحاصصة التي طبعت المناقصات المتصلة بالنفايات، في إشارة واضحة الى ان الطبقة السياسية لم تستخلص العبر من الانتفاضة الشعبية.
وعلى وقع الاحتجاجات الشعبية، انعقدت جلسة الحوار السابعة عشرة بين «حزب الله» و «تيار المستقبل» مساء امس في مقر الرئاسة الثانية في عين التينة، حيث أكد المجتمعون «حرصهم على حرية التعبير والتظاهر السلمي في إطار القوانين والأنظمة المرعية، ودعمهم مؤسسات الدولة في حماية الاستقرار الداخلي وحفظ الأمن والمؤسسات العامة والأملاك الخاصة».
وشددوا ـ وفق البيان الصادر عنهم ـ على أولوية الحوار والتفاهم بين مختلف الأطراف لمعالجة الأزمات، وعلى ضرورة تحمل الدولة لمسؤولياتها في القضايا التي تهم المواطنين.
محاصصة النفايات
في هذا الوقت، كان أصحاب النفوذ والشهيات المفتوحة يتقاسمون استثمار النفايات، في صفقة مكشوفة، «طلعت ريحتها» منذ ان بدأ الإعداد لها في الغرف السوداء.

والمحاصصة هذه المرة كانت علنية ومفضوحة، بالاسم والشهرة، وعلى عينك يا تاجر. لم تكن هناك حاجة لبذل جهد كبير من أجل تبيان ارتباطات الفائزين في المناقصات مع النافذين السياسيين في المناطق التي تتوزع عليها الشركات الرابحة.
في ملف توزيع أرباح النفايات، تحققت كل شروط التوازن والشراكة والعدالة والمناصفة والتمثيل الصحيح. تعرف الطبقة السياسية جيداً كيف تتقاسم المغانم على «المسطرة». ربما تتأخر الصفقة قليلاً في إطار سعي كل طرف الى تحسين شروطه ومكاسبه، لكنها تُنجز في النهاية.
كان البعض يفترض ان انتفاضة 22 آب ستفرض على الطبقة الحاكمة مراجعة خياراتها وتعديل سلوكها، أقله من باب الانحناء التكتيكي أمام العاصفة، لكن ما حصل هو العكس تماماً، إذ إن المعنيين استغلوا الحراك الشعبي للتسريع في إتمام محاصصة النفايات، بحجة ضرورة التعجيل في معالجة الازمة والاستجابة لمطالب الناس!
والأسوأ، ان كلفة معالجة الطن الواحد من النفايات عبر الشركات الفائزة، هي أكبر من تلك التي كانت تتقاضاها شركة «سوكلين»، ما دفع الى طرح العديد من علامات الاستفهام والتعجب، فيما سارع الرئيس نبيه بري الى المطالبة بإعادة النظر في المناقصات، نسبة الى الأسعار المرتفعة وتحميلها الخزينة أعباءً إضافية كبيرة، «وإلا إلغاء المناقصات.»
ولاحقاً، أوضح وزير البيئة محمد المشنوق «أن هذه الأسعار تشمل إقامة معامل للمعالجة وتحضير وتجهيز المطامر في وقت كانت «سوكلين» تشغّل معامل موجودة ، كما أن هذه الاسعار تشمل موضوع الكنس الذي لم تكن «سوكلين» تقوم به خارج بيروت».
وقال خبراء بيئيون معترضون على أداء الحكومة لـ «السفير» إن تسويات حصلت وتقاسم للمناطق جرى، إما بين السياسيين أو بين العارضين أنفسهم، او بين هؤلاء جميعاً، لافتين الانتباه الى ان الأسعار التي تقدم بها الفائزون كانت في معظمها اعلى من أسعار «سوكلين» التي كانت تتراوح بين 140 و150$ للطن الواحد.
واعتبر الخبراء المعارضون لطريقة مقاربة أزمة النفايات أن المحاصصة كانت نافرة، مشيرين الى انه ليس خافياً أن الفائزين في المناقصات مصنفون في خانات مرجعيات سياسية، إذ إن جهاد العرب محسوب على الرئيس سعد الحريري وأطراف أخرى، وشريف وهبي مقرَّب من الرئيس نبيه بري، وانطوان أزعور (شقيق الوزير السابق جهاد أزعور) محسوب على الرئيس فؤاد السنيورة وجهات أخرى، ورياض الأسعد مقرَّب من النائب وليد جنبلاط، ونعمة افرام منفتح على قوى مسيحية عدة.
وإذا كان فض العروض هو نصف الكوب، فإن النصف الآخر الذي لا يزال فارغاً يتعلق بتحديد مواقع الطمر، وهذا ما سيكون مادة بحث وخلاف في جلسة مجلس الوزراء اليوم، وسط محاولات لتهريب مواقع الطمر، من دون ضجيج، خوفاً من رد فعل الناس في المناطق التي قد يتم اختيارها لطمر النفايات فيها.
ويفتقد الإعلان عن نتائج المناقصات أي إشارة إلى كيفية تأمين «البديل المؤقت» في انتظار ان يكتمل التعاقد مع الشركات الفائزة والبدء في التنفيذ خلال الفترة الانتقالية التي حددها وزير البيئة بـ 6 أشهر، علماً أن الخبراء يتوقعون أن تحتاج الشركات الى قرابة سنة لإجراء العقود والبدء بالإنشاءات المطلوبة، وذلك إذا نجحت هذه الشركات او الحكومة مجتمعة في إقناع الناس بالمواقع المختارة للطمر، لا سيما في المناطق الحساسة في جبل لبنان!
وعشية انعقاد مجلس الوزراء، قال وزير التربية الياس بو صعب لـ «السفير» إنه لم يكن قد استلم حتى مساء أمس دعوة واضحة الى حضور الجلسة اليوم، لافتاً الانتباه الى أنه سمع من الوزير رشيد درباس بأن هناك اجتماعاً للحكومة، ومتسائلاً: هل انتقلت صلاحية دعوة مجلس الوزراء للانعقاد من رئيس الحكومة الى الوزير درباس، وهل بهذه الطريقة أصبحت تتم دعوتنا الى حضور الجلسات؟
وتعليقاً على نتائج مناقصات النفايات، اعتبر بوصعب ان ما حصل غير مقبول وهو استمرار لنهب المال العام، مستغرباً الاسعار المرتفعة التي رست عليها المناقصات، ومضيفاً: بدل «سوكلين» واحدة، باتت لدينا مجموعة شقيقات لـ «سوكلين»، وأنا شخصياً لا يمكنني أن أغطي نتائج المناقصات أو أن أقبل بها، ويبدو أن هناك قطباً مخفية في هذا الملف.
ولفت الانتباه الى أن مجلس الوزراء لن ينجح في فرض المطامر بالقوة، كما يخطط بعضهم، مشدداً على أن هناك تخبطاً واضحاً في معالجة أزمة النفايات، و»ألله يستر..».
أما الوزير رشيد درباس فقال لـ «السفير» تعليقاً على اتهامه بتجاوز حدود صلاحياته: كل ما صدر عني هو انني توقعت انعقاد مجلس الوزراء بعد فض العروض المتعلقة بمعالجة النفايات، فأين الخطأ في ذلك. وأضاف: أنا أعرف حدودي وصلاحياتي جيداً.. أنا مجرد وزير بسيط، لا يمكنه ان يدعو مجلس الوزراء، ولكنه يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
ورداً على سؤال حول ما يمكن ان يقرره مجلس الوزراء اليوم في شأن ملف النفايات، أجاب: إن الحكومة تملك صلاحية أن تقر أو لا تقر نتائج المناقصات، وبالتالي يمكنها أن تطلب إعادة التفاوض مع الشركات بخصوص الأسعار، إذا وجدت انها مرتفعة.
وأشار الى ان تحديد المطامر يحتاج الى تفاهم مع بعض القوى السياسية وإلى تقديم حوافز مالية للمناطق المعنية.
وحول رد فعله في حال أصرَّ فريق ما في الحكومة على مواقف مضادة لطرحه، قال: المزايدات والمماحكات لم تعد مقبولة، والوضع لم يعد يحتمل هذا الترف.. وليكن معلوماً أنني لست متمسكاً بمنصبي الوزاري.. ولا براتبي الذي لا يتعدى الـ 8 ملايين ليرة.. ليأخذوها ويعيدوني إلى مكتب المحاماة الذي أقفلته منذ ان أصبحت وزيرا.